تابع : بحث شامل عن شهر رمضان الفضيل
الفصل
السادس
القرآن
و الذكر في رمضان
القرآن
في رمضان:
معلوم
أن رمضان شهر له خصوصية بالقرآن. قال الله تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه
القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان))(البقرة:185).
فقد
أنزل الله القرآن في هذا الشهر، و في ليلة منه هي ليلة القدر، لذا كان لهذا الشهر
مزية بهذا القرآن.
و
كان النبي صلى الله عليه و سلم يعرض القرآن في رمضان على جبريل عليه السلام، فكان
يدارسه القرآن.
فعن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أجود
الناس، و كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن".
فكونه
يخص ليالي رمضان بمدارسته، دليل على أهمية قراءة القرآن في رمضان.
و
معلوم أن الكثير من الناس يغفلون عن قراءة القرآن في غير رمضان، فنجدهم طوال السنة
لا يكاد أحدهم يختم القرآن إلا ختمة واحدة، أو ختمتين، أو ربما نصف ختمة في أحد عشر
شهراً، فإذا جاء رمضان أقبل عليه و أتم تلاوته.
و
نحن نقول: إنه على أجر، و له خير كبير، و لكن ينبغي ألا يهجر القرآن طوال وقته؛
لأن الله تعالى ذمّ الذين يجهرونه، قال تعالى: ((وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا
هذا القرآن مهجوراً))(الفرقان:17).
*
و من هجران القرآن ألا يكون الإنسان مهتماً به طوال العام إلا قليلاً.
*
و من هجرانه كذلك أنه إذا قرأه لم يتدبره، و لم يتعقله.
*
و من هجرانه أن القارئ يقرأه لكنه لا يطبقه، و لا يعمل بتعاليمه.
و
أما الذين يقرؤون القرآن طوال عامهم، فهم أهل القرآن، الذين هم أهل الله و خاصته.
و
يجب على المسلم أن يكون مهتماً بالقرآن، و يكون من الذين يتلونه حق تلاوته، و من
الذين يحللون حلاله و يحرمون حرامه، و يعملون بمحكمه، و يؤمنون بمتشابهه، و يقفون
عند عجائبه، و يعتبرون بأمثاله، و يعتبرون بقصصه و ما فيه، و يطبقون تعاليمه؛ لأن
القرآن أنزل لأجل أن يعمل به و يطبق، و إن كانت تلاوته تعتبر عملاً و فيها أجر.
و
فضائل التلاوة كثيرة و مشهورة، و لو لم يكن منها إلا قول النبي صلى الله عليه و
سلم: "من قرا حرفاً من القرآن فله حسنة، و الحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم
حرف، و لكن ألف حرف، و لام حرف، و ميم حرف". فجعل في قراءة آلم ثلاثين حسنة.
و
فضائل التلاوة كثيرة لا تخفى على مسلم، و في ليالي رمضان و أيامه تشتد الهمة له.
كان بعض القراء الذين أدركناهم يقرؤون في كل ليلة ثلاثة أجزاء من القرآن على وجه
الاجتماع؛ يجتمعون في بيت، أو مسجد، أو أي مكان، فيقرؤونه في كل عشرة أيام مرة. و
بعضهم يقرأ القرآن و يختمه وحده.
و
قد أدركت من يختم القرآن كل يوم مرة أو يختم كل يومين مرة! فقد يسره الله و سهله
عليهم، و أشربت به قلوبهم، و صدق الله القائل: ((ولقد يسَّرنا القرآن للذكر فهل من
مُدَّكر))(القمر:17). و قال: ((فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون))(الدخان:58).
فمن
أحب أن يكون من أهل الذكر فعليه أن يكون من الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته، و
يقرأه في المسجد، و يقرأه في بيته، و يقرأه في مقر عمله، لا يغفل عن القرآن، و لا
يخص شهر رمضان بذلك فقط.
فإذا
قرأت القرآن فاجتهد فيه؛ كأن تختمه مثلاً كل خمسة أيام، أو في كل ثلاثة أيام، و
الأفضل للإنسان أن يجعل له حزباً يومياً يقرأه بعد العشاء أو بعد الفجر أو بعد
العصر، و هكذا. لابد أن تبقى معك آثار هذا القرآن بقية السنة و يحبب إليك كلام
الله، فتجد له لذة، و حلاوة، و طلاوة، و هنا لن تمل من استماعه، كما لن تمل من
تلاوته.
هذه
سمات و صفات المؤمن الذي يجب أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله تعالى و
خاصته.
أما
قراءة القرآن في الصلاة، فقد ذكرنا أن السلف كانوا يقرؤون في الليل فرادى و
مجتمعين قراءة كثيرة. فقد ذكروا أن الإمام الشافعي -رحمه الله- كان يختم في الليل
ختمة، و في النهار ختمة، في غير الصلاة؛ لأنه يقرأ في الصلاة زيادة على ذلك.
و
قد يستكثر بعض الناس ذلك و يستبعدونه، و أقول: إن هذا ليس ببعيد، فقد أدركت أناساً
يقرؤون من أول النهار إلى أذان صلاة الجمعة أربعين جزءاً في مجلس واحد. يقرأ، ثم
يعود فيقرأ، يختم القرآن ثم يعود فيختم ثلث القرآن، فليس من المستبعد أن يختم
الشافعي في النهار ختمة، و في الليل ختمة.
و
لا يستغرب ذلك أيضاً على الذين سهل القرآن في قلوبهم، و على ألسنتهم، فلا يستبعده
إلا من لم يعرف قدر القرآن، أو لم يذق حلاوته في قلبه.
و
على الإنسان إذا قرأ القرآن أن يتدبَّره و يعقله؛ لأن الله تعالى أمر بذلك في آيات
كثيرة، كما قال تعالى: ((أفلا يتدبَّرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا
فيه اختلافاً كثيراً))(النساء:82).
فنحن
مأمورون أن ننظر في هذا القرآن و نتدبره، و الكفار كذلك مأمورون بذلك حتى يعترفوا
أنه من عند الله، و أنه لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، و لاضطربت أوامره
و نواهيه، فلما كان محكماً متقناً، لم يقع فيه أي مخالفة، و لا أي اضطرابات كان
ذلك آية عظيمة، و معجزة باهرة.
فهذا
هو القصد من هذه الآية، و لكن لا ينافي ذلك بأننا مأمورون أن نتدبر كل ما قرأنا
كما أُمرنا.
الذكر
و الدعاء في رمضان:
يجب
على المسلم أن يتعلم، و أن يعمل بما تيسر له من الأذكار و الأدعية، فالأذكار يضاعف
أجرها في هذا الشهر، و يكون الأمل في قبولها أقرب، و يجب على المسلم أن يستصحبها
في بقية السنة، ليكون من الذاكرين الله تعالى، و ممن يدعون الله تعالى و يرجون
ثوابه و رضوانه و رحمته.
و
ذكر الله بعد الصلوات مشروع، و كذلك عند النوم، و عند الصباح و المساء، و كذلك في
سائر الأوقات. و أفضل الذكر التهليل و التسبيح، و التحميد، و الاستغفار، و
الحوقلة، و ما أشبه ذلك، و يندب مع ذلك أن يُؤتى بها و قد فَهِمَ معناها حتى يكون
لها تأثير، فيتعلم المسلم معاني هذه الكلمات التي هي من الباقيات الصالحات، و قد
ورد في الحديث تفسير قول الله تعالى: ((و الباقيات الصالحات))(الكهف:46). أنها:
سبحان الله، و الحمد لله، و لا إله إلا الله، و الله أكبر، و لا حول و لا قوة إلا
بالله.
و
ورد في حديث آخر: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع، و هن من القرآن: سبحان الله،
و الحمد لله، و لا إله إلا الله، و الله أكبر". أي أفضل الكلام الذي يؤتى به
ذكراً.
فلتتعلم
-أخي المسلم- معنى التهليل، و معنى الاستغفار، و معنى الحوقلة، و معنى التسبيح، و
التكبير، و الحمد لله، و ما أشبه ذلك، تعلم معناها حتى إذا أتيت بها، أتيت بها و
أنت موقن بمضمونها، طالب لمستفادها.
و
شهر رمضان موسم من مواسم الأعمال، و لا شك أن المواسم مظنة إجابة الدعاء، فإذا
دعوت الله تعالى بالمغفرة، و بالرحمة، و بسؤال الجنة، و بالنجاة من النار، و
بالعصمة من الخطأ، و بتكفير الذنوب،و برفع الدرجات، و ما أشبه ذلك و دعوت دعاءً
عاماً بنصر الإسلام، و تمكين المسلمين، و إذلال الشرك و المشركين، و ما أشبه ذلك،
رُجي بذلك أن تستجاب هذه الدعوة من مسلم مخلص، ناصح في قوله و عمله.
و
قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالدعاء و بسؤال الجنة، و بالنجاة من النار؛ و
ذلك لأنها هي المآل.
الاستغفار
في رمضان:
يقول
الله تعالى: ((كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * و بالأسحار هم
يستغفرون))(الذاريات:17-18).
و
قد تتعجب: من أي شيء يستغفرون؟
أيستغفرون
من قيام الليل؟! هل قيام الليل ذنب؟
أيستغفرون
من صلاة التهجد؟ هل التهجد ذنب؟
نقول:
إنهم عمروا لياليهم بالصلاة، و شعروا بأنهم مقصِّرون فختموها بالاستغفار، كأنهم
يقضون ليلهم كله في ذنوب. فهذا حال الخائفين؛ إنهم يستغفرون الله لتقصيرهم.
و
يقول بعضهم:
أستغفر
الله من صيامي طول زماني و
من صلاتي
صوم
يرى كله خروق و صلاة أيما
صــــلاة
فيستغفر
أحدهم من الأعمال الصالحة، حيث إنها لابد فيها من خلل، و لذلك يندب ختم الأعمال
كلها بالاستغفار، بل بالأخص في مثل هذه الليالي.
و
قد جاء قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث سلمان: "فأكثروا فيه من أربع
خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، و خصلتين لا غنى لكم عنهما، أما الخصلتان اللتان
ترضون بهما ربكم: فلا إله إلا الله، و الاستغفار. و أما الخصلتان اللتان لا غنى
لكم عنهما: فتسألون الله الجنة، و تستعيذون من النار" رواه ابن خزيمة كما
سبق.
فهذا
و نحوه دليل على أنك متى وفقت لعمل فغاية أمنيتك العفو، و تختم عملك بالاستغفار.
إذا قمت الليل كاملاً، فاستغفر بالأسحار، كما مدح الله المؤمنين بقوله: ((و
بالأسحار هم يستغفرون))(الذاريات:18). فإذا وُفِّقت لقيام مثل هذه الليالي،
فاطلب العفو، أي: اطلب من ربك أن يعفو عنك، فإنه تعالى عفوّ يحب العفو.
و
العفُوُّ من أسماء الله تعالى، و من صفاته، و هو الصفح و التجاوز عن الخطايا و عن
المخطئين.
في
ختام الشهر:
و
علينا أن نختم أعمالنا كلها بالتوبة و الاستغفار، سواء في قيام هذه الليالي أو
غيرها من سائر الأعمال، بل نختم عملنا كله بما يدل على تعظيم الله تعالى، و ذكره و
الثناء عليه.
و
قد أمر الله عباده بأن يختموا شهرهم بالتكبير في قوله تعالى: ((و لتكملوا العدة و
لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون))(الذاريات:18).
و
لكن، ما مناسبة ختم رمضان بالتكبير بعد إكمال العدة؟
أقول:
إن الإنسان إذا كبّر الله استحضر عظمته و جلاله، و كبرياءه، و قداسته، فاحتقر نفسه
و احتقر أعماله مهما عمل، و لم يذكر شيئاً من أعماله و لم يفتخر بها. و بمثل ذلك
يكون محلاً للعفو و لقبول الحسنات، فإذا عرفت بأن ربك أهل لأن يعبد، و أهل للثناء
و المجد، و أهل لأن يحمد، و أنك لو عبدت الله تعالى بكل ما تستطيعه لما أديت أقل
القليل من حقه عليك، كما يقول بعضهم:
سبحان من لو سجدنا بالعيون له
على حمى الشوك و المحمى من الإبر
لم نبلغ العشر من معاشر مِنّــته و لا
العشير و لا عشراً من العشر
فنحن
إذا أنهينا صيامنا و قيامنا. نعرف أن ربنا هو الكبير الأكبر، و أنه أهل لأن يكبّر،
و يعظّم، و أنه أهل للعبادة، و لذلك يُروى أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة و قابلوا
ربهم. اعترفوا بالتقصير، و قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك".
أي
مهما كانت عبادتك فإنك ستحتقرها، و يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: "لا
يقولن أحدكم إني صمت رمضان كله، و قمته كله"، قال الراوي: فلا أدري، أكره
التزكية، أو قال: لا بد من نومه أو رقده؟ أو تقصيره.
و
كلا الأمرين، حق فإن الإنسان منهي أن يزكي نفسه قال تعالى: ((فلا تزكوا أنفسكم هو
أعلمُ بمن اتقى))(النجم:32). و قال: ((ألم تر إلى الذين يُزكُّون أنفسهم بل الله
يزكِّي من يشاء))(النساء:49).
فتزكية
النفس: مدحُها، و رفع مقام الإنسان لنفسه و الإعجاب، و قد يكون الإعجاب سبباً
لإحباط العمل! فعليك أن تحتقر نفسك، فإذا نظرت إلى الناس، و احتقرت أعمالهم فارجع
إلى نفسك و احتقرها، و لُمْهَا حق اللوم، و حقِّر عملك حتى يحملك ذلك على
الاستكثار، و لا تعجب بأي عمل فعلته فلا تقل:
أنا
الذي صليت!
أنا
الذي قمت!
أنا
الذي تهجدت!
أنا
الذي قرأت .. إلخ، فيكون إعجابك سبباً لرد أعمالك!
فهذا
و نحوه من الإرشادات التي ينبغي على المسلمين أن يعملوا بها، و أن يهتدوا إليها، و
يحرصوا على استغلالها في مثل هذه الليالي المباركة.
|