عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 20/06/2015, 10:49 AM
صورة لـ صابر حجازى
صابر حجازى
الاديب المصري
الاديب المصري
 
تابع : بحث شامل عن شهر رمضان الفضيل



الفصل الثالث
..................


قيام الليل





لا شك أن الصلاة من أفضل القربات، و أنها
عبادة دينية لا تصلح إلا لله تعالى، و اختصت بأعمال من القربات، مثل: الركوع و
السجود، و القيام و القعود، و الرفع و الخفض، و الدعاء و الابتهال، و الذكر لله، و
القراءة، و غير ذلك مما اختصت به فكانت أشرف العبادات البدنية.


و لما كانت الصلاة كذلك فقد فرضها الله
تعالى على عباده فريضة مستمرة طوال العام و العمر، و كررها في اليوم خمس مرات، لما
لها من أكبر الأثر في حياة المسلم.


و لما كانت من أهم الأعمال و القربات لله
تعالى، فقد شرع لعباده أيضاً أن يتقربوا بنوافلها. فمدح الذين يكثرون من الصلاة، و
خصوصاً في الليل، فأمر نبيه صلى الله عليه و سلم بقوله: ((يا أيها المزمل * قم
الليل إلا قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه و رتل القرآن
ترتيلاً))(المزمل:1-4). و قال تعالى: ((و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً
محموداً))(الإسراء:79).


فأمر نبيه أن يتهجد من الليل بهذا القرآن، و
الأمر له شريعة لأمته، فإن أمته تبع له، فهو أسوتهم و قدوتهم.





قيام
النبي صلى الله عليه و سلم:





لقد
امتثل النبي صلى الله عليه و سلم أمر الله تعالى: ((يا أيها المزمل * قم الليل إلا
قليلاً))(المزمل:1-2)، فكان يقوم نصف الليل، أو ثلثه، أو نحو ذلك طوال سنته، و كان
يصلي من الليل ما شاء، و يطيل في الصلاة.


و
قد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم كان يخص شهر رمضان بمزيد من الاهتمام، فقد قال صلى
الله عليه و سلم: "من قام رمضان إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدم من
ذنبه". متفق عليه.


و
قيام رمضان هو قيامه بالتهجد، بالصلاة ذات الخشوع، و ذات الدعاء في هذه الليالي
الشريفة.


و
قد حث عليه السلام أمته على هذه الصلاة، فكانوا يتقربون بها، تارة يصلونها وحدهم،
و تارة يصلونها معه صلى الله عليه و سلم، فتوفي و هم يصلون أوزاعاً. يصلي في
المسجد جماعة، أو ثلاث جماعات، أو أربع، و قد صلّى بهم صلى الله عليه و سلم في
حياته ثلاث ليال متوالية جماعة، يصلي بهم نصف الليل أو ثلثه، أو نحو ذلك.


لكنه
و بعد أن رأى حرص الصحابة على قيام الليل معه و مداومتهم على ذلك و ازدحام المسجد
بهم خشي أن يُفرض عليهم ذلك القيام و الاجتماع، فيعجزون فلا يحافظون و يستمرون
عليه، فأمرهم أن يصلوا فرادى في أماكنهم.


ثم
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمعهم على هذه الصلاة التي تسمى صلاة التراويح،
فجمعهم عليها لما أمن أنها لن تفرض عليهم؛ لأنه قد انقطع الوحي بوفاة النبي صلى
الله عليه و سلم .


فأجمع
المسلمون أهل السنة على هذا التهجد خلافاً للرافضة، و بقي كذلك إلى هذا الزمان
يصلون في مساجدهم جماعة عشرين ركعة، أو ثلاث عشرة، أو ستاً و ثلاثين، أو إحدى و
أربعين، على حسب اجتهادات العلماء.


فرأى
بعضهم أن يصلي إحدى و أربعين ركعة كما أثر ذلك عن مالك و غيره من الأئمة.


و
رأى آخرون أن يصلي سبعاً و ثلاثين في صلاة الوتر، أو تسعاً و ثلاثين، و قالوا: إن
هذا يخفف على الناس، و يكون فيه قطع لليالي في الصلاة.


و
رأى آخرون أن يصلي ثلاثاً و عشرين، و اختار ذلك أكثر العلماء كما حكاه الترمذي عن
أكثر الأئمة.


و
رأى آخرون أن يصلوا إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة.


و
الكل جائز، و لكن لابد أن تكون الصلاة باطمئنان و خشوع و خضوع و حضور قلب، حتى
تحصل الحكمة و الفائدة التي لأجلها شرعت الصلاة.


و
قد أجاز العلماء الزيادة على إحدى عشرة ركعة، و اعتبروا ذلك بالزمان،
فقالوا: إن من صلى تسعاً و ثلاثين ركعة في ساعتين كمن صلى إحدى عشرة في ساعتين،
فيكون الأجر على قدر الزمان، لا على قدر العدد، أو كثرة الركعات.





قيام السلف رضي الله عنهم:





كانت سُنة السلف رحمهم الله أنهم يصلون هذه
الصلاة في نصف الليل، أو في ثلثه؛ أي ثلاث ساعات، كلها في تهجد، فإذا كان الليل
طويلاً صلوا أربع ساعات أو أكثر، و إن كان قصيراً صلوا نحو ثلاث ساعات كلها في
التراويح. هكذا كانت صلاتهم، فإما أن يقللوا عدد الركعات و يطيلوا القيام و الركوع
و السجود، و إما أن يزيدوا في عدد الركعات و يخففوا الأركان، و يقللوا القراءة،
حتى تكون بمقدار هذه الساعات الثلاث أو الأربع أو نحوها. و قد روى مالك و غيره
أنهم أحياناً يحيون الليل فلا ينصرفون إلا قرب الفجر بحيث يستحثون الخدم بإحضار
السحور.


و لكن في هذه الأزمنة، نشاهد أن الناس قد
استولى عليهم الكسل و شغلتهم أمور دنياهم، فصاروا ينظرون لمن يصلي ربع هذه الصلاة
أو ثلثها، فيعدونه مكثراً، بل يعدون القراءة المتوسطة، طويلة! و إذا قرأ إمامهم
عليهم سورة فأطالها، يقول قائلهم: أطلتَ فخفِّف!!


و لا شك أن الذين يملُّون من هذه الصلاة هم
الكسالى الذين لا يرغبون في هذه العبادة، ذلك أن من فضل هذه الصلاة أن يجعلها
المؤمن سرور قلبه، و راحة بدنه، و ينبغي أن يجعلها المؤمن قرة عينه كما كانت قرة
عين النبي صلى الله عليه و سلم.، و ينبغي للمسلم أن يجعل جنس الصلاة راحة بدنه، و
شفاءه و دواءه، و أن يستعين بها على حاجاته، أليس الله تعالى يقول: ((و استعينوا
بالصبر و الصلاة))(البقرة:45)؟!


و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا
حزبه أمر فزع إلى الصلاة. فإذا دخل في الصلاة نسي همومه و غمومه، و خلي بربه، و
سُرّ قلبه بأنسه بالله تعالى.


فهذه هي الحكمة من إطالة الصلاة و من الركون
إليها. فالذين يستثقلون هذه الصلاة إذا صلى أحدهم في ساعة، أو نحوها أو أقل من ذلك
عَدُّوا ذلك إطالة و تنفيراً هم الكسالى مع أن هذا نقص للصلاة و عدم طمأنينة، و
إخراج لها عن ماهيتها؛ فإنا مأمورون في الصلاة أن نقرأ و نرتل، و مأمورون أن لا
ننقص في رمضان عن ختم القرآن مرة أو مرتين.


و لقد كان السلف رحمهم الله يقرؤون، و
يزيدون في القراءة؛ فكانوا يقرؤون سورة البقرة في ثماني ركعات -و هي جزآن و نصف
الجزء تقريباً- و نحن نرى أن بعض أهل زماننا يصلي سورة البقرة في ثمانين ركعة!!


فأين الفرق بين أولئك، و هؤلاء؟!!


و نرى آخرين يقتصرون على نصف القرآن أو
ثلثيه!! و لا شك أن هذا هو الكسل بعينه!


و نقول لمن يرغب أن يقتدي بنبيه صلى الله
عليه و سلم، و أن يكون حقاً من أتباعه، عليه أن يأتي بهذه الصلاة بطمأنينة -سواء
رغب المصلون أم لم يرغبوا- فيبين لهم أن هذه هي الصلاة التي تجزئ في القيام و هي
التي حث عليها الرسول صلى الله عليه و سلم أن تكون في خشوع و اطمئنان، و هي ما كان
عليه سلف هذه الأمة من الصحابة و تابعيهم رضي الله عنهم أجمعين.


فالقراءة المعتادة أن يختم القرآن في ليلة
سبع و عشرين، أو نحوها. و قد أدركت أئمة يختمون في رمضان ثلاث ختمات، حيث إنهم مع
أناس يحبون سماع القرآن، و يحبون الخشوع في الصلاة، و إطالتها بينما هناك أناس لا
يقرؤون إلا قدراً قليلاً من القرآن.


فإذا كنت إماماً لأناس فعليك أن تصلي بهم
الصلاة النبوية، التي تكون بها مدركاً للحكمة من هذه العبادة، محصلاً للثواب و
الأجر الذي أعده الله عز و جل لمن قام الليل و تهجد، و رتل القرآن ترتيلاً.


تنبيـــه:


و هنا أنبه على أمر مهم لمن كان من عادته
قيام الليل (أي التهجد) طوال السنة فإنه لا ينبغي له أن يقطع عادته السنوية لأن
الصلاة آخر الليل مشهودة، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه و سلم.


فإذا صليت أول الليل ما تيسر لك من هذه
التراويح فحافظ أيضاً على صلاة آخر الليل بما تستطيعه قلّ أو كثر، و بهذا تكون
محافظاً على العبادات.


و هكذا أيضاً تحافظ على السنن الرواتب -التي
قبل الصلاة و بعدها- فإذا طمعت في الزيادة في هذا الوقت فلا تدخر وسعاً.


روي عن بعض السلف: أن الأعمال تضاعف في شهر
رمضان، فركعة في رمضان تعدل ألف ركعة فيما سواه، و الحسنة فيه بألف حسنة فيما
سواه، و الفريضة تعدل سبعين فريضة فيما سواه، و من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير
كان كمن أدى فريضة فيما سواه. كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله في وظائف رمضان.





الفصل الرابع


الاعتكــــاف





حقيقة الاعتكاف:


الأصل في الاعتكاف أنه الإقامة في المكان
طويلاً، و لزومه، و الاشتغال فيه، و كان المشركون يعكفون عند الأوثان كما في قوله
تعالى: ((فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم))(الأعراف:138). و قول إبراهيم عليه
السلام: ((ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون))(الأنبياء:52). و قولهم: ((نعبد
أصناماً فنظل لها عاكفين))(الشعراء:71).


و جعل الله عكوف المسلم و اعتكافه لزوم
المسجد، فقال تعالى: ((أن طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع
السجود))(البقرة:125). و قال تعالى: ((و لا تقربوهن و أنتم عاكفون في
المساجد))(البقرة:187). فجعل العكوف لزوم المساجد.


فالأصل أن المعتكف يفرّغ نفسه و ينفرد في
مكان و يشغل نفسه بالعبادة، و ينقطع عن الدنيا و ينقطع عن أهلها.


فالاعتكاف هو لزوم المسجد طاعة لله تعالى، و
القصد منه التفرغ للعبادة. و أن لا يخرج من المسجد إلا لضرورة ملحة لا يجد منها
بداً، كأن يحضر طعامه و شرابه إذا لم يجد من يحضره له، و كذلك الخروج للخلاء و
للوضوء و غير ذلك.


قال ابن رجب رحمه الله: معنى الاعتكاف و
حقيقته: "قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق".


الحكمة من الاعتكاف:


إن الحكمة من الاعتكاف الانقطاعُ عن الدنيا،
و عن الانشغال بها و بأهلها، و التفرغ للعبادة، و الاستكثار منها. و إنما كان
الاعتكاف في المساجد لأجل ألا يترك صلاة الجماعة مع المسلمين التي هي علامة و شعيرة
من شعائر الإسلام.


فضل الزمان و فضل المكان:


فإذا عزم المسلم على الاعتكاف فعليه أن
يختار المسجد الذي تصلى فيه الجمعة، حتى لا يخرج إلا عند انتهاء مدة الاعتكاف، و
الأفضل أن يكون في زمان فاضل تضاعف فيه العبادات حتى يجمع بين فضل الزمان و فضل
المكان.


فالاعتكاف مثلاً في المساجد الثلاثة: المسجد
الحرام، و المسجد النبوي، و المسجد الأقصى له ميزته، و ذلك لفضل العبادة بتلك
المساجد، و أما بقية مساجد الدنيا فإنها متساوية إلا أن المسجد الذي يكون قديماً
تكون العبادة فيه أفضل لقدم العبادة فيه فيختار المسجد الأقدم.


مدة
الاعتكاف:





إذا
أراد المسلم أن يعتكف؛ فأقل الاعتكاف يوم و ليلة، يعني أربعاً و عشرين ساعة حتى
يصدق عليه أنه معتكف، و ما عدا ذلك فيه خلاف؛ فبعضهم يرى أن من اعتكف يوماً أي من


طلوع الشمس إلى غروبها، أو ليلة من غروبها إلى طلوعها يكون اعتكافاً، و بعضهم يرى
أنه لابد من يوم و ليلة حتى يتحقق الحديث.





محظورات
الاعتكاف:


يشتغل
المعتكف بكل ما يقربه إلى الله عز و جل من صلاة و تلاوة للقرآن الكريم و مدارسته،
كما أنه ينقطع عن العلاقات الدنيوية فينقطع عن الزيارات، فلا يفتح باب الزيارة لمن
يزوره إلا قليلاً لحاجته. فقد ثبت أن بعض نساء النبي صلى الله عليه و سلم كنّ
يأتين إليه و هو معتكف و يتحدثن معه قليلاً.


أما
فتح باب الزيارة للأهل و الأولاد و الأصدقاء فإنه يجعل المسجد كالبيت، لا فرق
بينهما، كما أنه يفتح الباب أمام الكلام الذي لا فائدة منه.


و
كذلك على المعتكف ألا ينشغل بالدنيا و بأهلها، فلا يسال من رأى، و لا من سمع عن
أمر من أمور الدنيا، و لا عن خبر من أخبارها، و لا يهتم بأمر من أمورها. و بعد ذلك
يعكف على العبادة؛ فينتقل من جنس الصلاة سواء التراويح أو غيرها، أو التقرب
بالرواتب و نحوها، ينتقل إلى القراءة و الذكر، و الدعاء و الابتهال إلى الله، و ما
أشبه ذلك مع حضور القلب حتى يجمع بين خشوع القلب و حضوره، و بين التكلم باللسان مع
اتصافه أيضاً بالخشوع و الخضوع.


و
لأجل ذلك ذكر ابن رجب أن بعضهم يقول في تعريف الاعتكاف: (أنه قطع العلائق عن
الخلائق للاتصال بخدمة الخالق). و العلائق بمعنى العلاقات فتقطع علاقتك بفلان و
فلان، و تنقطع منها عن جميع الخلائق، و يتصل قلبك بربك بحيث يكون ذكر الله على
قلبك دائماً، نائماً و يقظان، قائماً و قاعداً و مضطجعاً.


تذكر
الله في كل حالاتك، و تتأمل، و تعقل ما تقول إذا كنت مشتغلاً بذلك. و إن قرأت
القرآن قرأته بتدبر.



و
قد أدركنا قبل أربعين سنة، أو خمسين سنة آباءنا و مشايخنا كانوا يعتكفون، و لا
يُخلُّونَ بالاعتكاف، و كانوا يعكفون على القرآن، حيث رزقهم الله حفظ القرآن و
سهولته، فكانوا يختمونه كل يوم غالباً، أو كل يومين مع التدبر!! ذلك لأنه شغلهم
الشاغل في ليلهم و نهارهم، إلا أنه فقط يؤتى بأكله، بفطوره و سحوره، و أحياناً
يقتصر على السحور. فيتناول في الإفطار تمرات قليلة،و لا يتناول عشاءً، و يجعل
عشاءه سحوراً.


هكذا
أدركنا مشايخنا؛ يخرج الواحد منهم لقضاء الحاجة فقط، و للوضوء، لا يعود مريضاً، و
لا يشهد جنازة، و لا يعود أهله، و لا يفتح باب زيارة و لا غير ذلك.


هكذا
المعتكف الذي يريد أن يكتب له أجر هذا الاعتكاف، و يقتدي في ذلك بسنة نبيه صلى
الله عليه و سلم، فإنه صلى الله عليه و سلم ما ترك الاعتكاف في سنة من السنوات إلا
سنة واحدة في رمضان لما دخل معتكفه اعتكف معه بعض نسائه، و ضربت كل واحدة منهن
قبة، فلما رأى الأقبية في المسجد أنكر ذلك، و عرف أن هذا منافسة. فعند ذلك ترك
الاعتكاف تلك السنة و اعتكف في شوال، و كان في الغالب يعتكف في العشر الأواخر من
رمضان. و اعتكف مرة أو مرتين في العشر الأوسط.


و
الاعتكاف -كما سبق- كان للاستكثار من الطاعة، و لطلب أن يحظى العبد بالمغفرة، و
المغفرة لها أسباب، و من أسبابها في رمضان: الصيام إيماناً و احتساباً. و قيام
رمضان إيماناً و احتساباً. و كذلك قيام ليلة القدر إيماناً و احتساباً. فيحرص
العبد على أن يحظى بسبب من أسباب مغفرة الذنوب التي اقترفها فيما مضى من عمره.





من مواضيعي :
الرد باقتباس