الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُسورة الإسراء الآية رقم 1
ذِهِ السُّورَة مَكِّيَّة , إِلَّا ثَلَاث آيَات : قَوْله عَزَّ وَجَلَّ ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَك ) [ الْإِسْرَاء : 76 ] حِين جَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْد ثَقِيف , وَحِين قَالَتْ الْيَهُود : لَيْسَتْ هَذِهِ بِأَرْضِ الْأَنْبِيَاء . وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ : ( وَقُلْ رَبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَل صِدْق وَأَخْرِجْنِي مُخْرَج صِدْق ) [ الْإِسْرَاء : 80 ] وَقَوْله تَعَالَى ( إِنَّ رَبّك أَحَاطَ بِالنَّاسِ ) [ الْإِسْرَاء : 60 ] الْآيَة . وَقَالَ مُقَاتِل : وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم مِنْ قَبْله ) [ الْإِسْرَاء : 107 ] الْآيَة . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيل وَالْكَهْف وَمَرْيَم : إِنَّهُنَّ مِنْ الْعِتَاق الْأَوَّل , وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي ; يُرِيد مِنْ قَدِيم كَسْبه .

" سُبْحَان " اِسْم مَوْضُوع مَوْضِع الْمَصْدَر , وَهُوَ غَيْر مُتَمَكِّن ; لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي بِوُجُوهِ الْإِعْرَاب , وَلَا تَدْخُل عَلَيْهِ الْأَلِف وَاللَّام , وَلَمْ يَجْرِ مِنْهُ فِعْل , وَلَمْ يَنْصَرِف لِأَنَّ فِي آخِره زَائِدَتَيْنِ , تَقُول : سَبَّحْت تَسْبِيحًا وَسُبْحَانًا , مِثْل كَفَّرْت الْيَمِين تَكْفِيرًا وَكُفْرَانًا . وَمَعْنَاهُ التَّنْزِيه وَالْبَرَاءَة لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كُلّ نَقْص . فَهُوَ ذِكْر عَظِيم لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَصْلُح لِغَيْرِهِ ; فَأَمَّا قَوْل الشَّاعِر : أَقُول لَمَّا جَاءَنِي فَخَرْهُ سُبْحَان مِنْ عَلْقَمَة الْفَاخِر فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى طَرِيق النَّادِر . وَقَدْ رَوَى طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه الْفَيَّاض أَحَد الْعَشَرَة أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا مَعْنَى سُبْحَان اللَّه ؟ فَقَالَ : ( تَنْزِيه اللَّه مِنْ كُلّ سُوء ) . وَالْعَامِل فِيهِ عَلَى مَذْهَب سِيبَوَيْهِ الْفِعْل الَّذِي مِنْ مَعْنَاهُ لَا مِنْ لَفْظه , إِذْ لَمْ يَجْرِ مِنْ لَفْظه فِعْل , وَذَلِكَ مِثْل قَعَدَ الْقُرْفُصَاء , وَاشْتَمَلَ الصَّمَّاء ; فَالتَّقْدِير عِنْده : أُنَزِّه اللَّه تَنْزِيهًا ; فَوَقَعَ ( سُبْحَان اللَّه ) مَكَان قَوْلك تَنْزِيهًا .



" أَسْرَى " فِيهِ لُغَتَانِ : سَرَى وَأَسْرَى ; كَسَقَى وَأَسْقَى , كَمَا تَقَدَّمَ . قَالَ : أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوْزَاء سَارِيَة تُزْجِي الشَّمَال عَلَيْهِ جَامِد الْبَرَد وَقَالَ آخَر : حَيِّ النَّضِيرَة رَبَّة الْخِدْر أَسْرَتْ إِلَيَّ وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي فَجَمَعَ بَيْن اللُّغَتَيْنِ فِي الْبَيْتَيْنِ . وَالْإِسْرَاء : سَيْر اللَّيْل ; يُقَال : سَرَيْت مَسْرًى وَسُرًى , وَأَسْرَيْت إِسْرَاء ; قَالَ الشَّاعِر : وَلَيْلَة ذَات نَدًى سَرَيْت وَلَمْ يَلِتْنِي مِنْ سُرَاهَا لَيْت وَقِيلَ : أَسْرَى سَارَ مِنْ أَوَّل اللَّيْل , وَسَرَى سَارَ مِنْ آخِره ; وَالْأَوَّل أَعْرَف .



قَالَ الْعُلَمَاء : لَوْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْم أَشْرَف مِنْهُ لَسَمَّاهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَة الْعَلِيَّة . وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدُوا : يَا قَوْم قَلْبِي عِنْد زَهْرَاء يَعْرِفهُ السَّامِع وَالرَّائِي لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدهَا فَإِنَّهُ أَشْرَف أَسْمَائِي وَقَدْ تَقَدَّمَ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : لَمَّا رَفَعَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى حَضَرْته السَّنِيَّة , وَأَرْقَاهُ فَوْق الْكَوَاكِب الْعُلْوِيَّة , أَلْزَمَهُ اِسْم الْعُبُودِيَّة تَوَاضُعًا لِلْأُمَّةِ .

ثَبَتَ الْإِسْرَاء فِي جَمِيع مُصَنَّفَات الْحَدِيث , وَرُوِيَ عَنْ الصَّحَابَة فِي كُلّ أَقْطَار الْإِسْلَام فَهُوَ مِنْ الْمُتَوَاتِر بِهَذَا الْوَجْه . وَذَكَرَ النَّقَّاش : مِمَّنْ رَوَاهُ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا . رَوَى الصَّحِيح عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أُتِيت بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّة أَبْيَض [ طَوِيل ] فَوْق الْحِمَار وَدُون الْبَغْل يَضَع حَافِره عِنْد مُنْتَهَى طَرْفه - قَالَ - فَرَكِبْته حَتَّى أَتَيْت بَيْت الْمَقْدِس - قَالَ - فَرَبَطْته بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِط بِهَا الْأَنْبِيَاء - قَالَ - ثُمَّ دَخَلْت الْمَسْجِد فَصَلَّيْت فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْت فَجَاءَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْر وَإِنَاء مِنْ لَبَن فَاخْتَرْت اللَّبَن فَقَالَ جِبْرِيل اِخْتَرْت الْفِطْرَة - قَالَ - ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاء . .. ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَمِمَّا لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا خَرَّجَهُ الْآجُرِّيّ وَالسَّمَرْقَنْدِيّ , قَالَ الْآجُرِّيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى " سُبْحَان الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْله " قَالَ أَبُو سَعِيد : حَدَّثَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ , قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُتِيت بِدَابَّةٍ هِيَ أَشْبَه الدَّوَابّ بِالْبَغْلِ لَهُ أُذُنَانِ يَضْطَرِبَانِ وَهُوَ الْبُرَاق الَّذِي كَانَتْ الْأَنْبِيَاء تَرْكَبهُ قَبْل فَرَكِبْته فَانْطَلَقَ تَقَع يَدَاهُ عِنْد مُنْتَهَى بَصَره فَسَمِعْت نِدَاء عَنْ يَمِينِي يَا مُحَمَّد عَلَى رِسْلك حَتَّى أَسْأَلك فَمَضَيْت وَلَمْ أُعَرِّج عَلَيْهِ ثُمَّ سَمِعْت نِدَاء عَنْ يَسَارِي يَا مُحَمَّد عَلَى رِسْلك فَمَضَيْت وَلَمْ أُعَرِّج عَلَيْهِ ثُمَّ اِسْتَقْبَلَتْنِي اِمْرَأَة عَلَيْهَا مِنْ كُلّ زِينَة الدُّنْيَا رَافِعَة يَدَيْهَا تَقُول عَلَى رِسْلك حَتَّى أَسْأَلك فَمَضَيْت وَلَمْ أُعَرِّج ثُمَّ أَتَيْت بَيْت الْمَقْدِس الْأَقْصَى فَنَزَلْت عَنْ الدَّابَّة فَأَوْثَقْته فِي الْحَلْقَة الَّتِي كَانَتْ الْأَنْبِيَاء تُوثِق بِهَا ثُمَّ دَخَلْت الْمَسْجِد وَصَلَّيْت فِيهِ فَقَالَ لِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَا سَمِعْت يَا مُحَمَّد فَقُلْت نِدَاء عَنْ يَمِينِي يَا مُحَمَّد عَلَى رِسْلك حَتَّى أَسْأَلك فَمَضَيْت وَلَمْ أُعَرِّج فَقَالَ ذَلِكَ دَاعِي الْيَهُود وَلَوْ وَقَفْت لَتَهَوَّدَتْ أُمَّتك - قَالَ - ثُمَّ سَمِعْت نِدَاء عَنْ يَسَارِي عَلَى رِسْلك حَتَّى أَسْأَلك فَمَضَيْت وَلَمْ أُعَرِّج عَلَيْهِ فَقَالَ ذَلِكَ دَاعِي النَّصَارَى أَمَا إِنَّك لَوْ وَقَفْت لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتك - قَالَ - ثُمَّ اِسْتَقْبَلَتْنِي اِمْرَأَة عَلَيْهَا مِنْ كُلّ زِينَة الدُّنْيَا رَافِعَة يَدَيْهَا تَقُول عَلَى رِسْلك فَمَضَيْت وَلَمْ أُعَرِّج عَلَيْهَا فَقَالَ تِلْكَ الدُّنْيَا لَوْ وَقَفْت لَاخْتَرْت الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَة - قَالَ - ثُمَّ أُتِيت بِإِنَاءَيْنِ أَحَدهمَا فِيهِ لَبَن وَالْآخَر فِيهِ خَمْر فَقِيلَ لِي خُذْ فَاشْرَبْ أَيّهمَا شِئْت فَأَخَذْت اللَّبَن فَشَرِبْته فَقَالَ لِي جِبْرِيل أَصَبْت الْفِطْرَة وَلَوْ أَنَّك أَخَذْت الْخَمْر غَوَتْ أُمَّتك ثُمَّ جَاءَ بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي تَعْرُج فِيهِ أَرْوَاح بَنِي آدَم فَإِذَا هُوَ أَحْسَن مَا رَأَيْت أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَيِّت كَيْفَ يُحِدّ بَصَره إِلَيْهِ فَعُرِجَ بِنَا حَتَّى أَتَيْنَا بَاب السَّمَاء الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيل فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيل قَالُوا وَمَنْ مَعَك قَالَ مُحَمَّد قَالُوا وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ نَعَمْ فَفَتَحُوا لِي وَسَلَّمُوا عَلَيَّ وَإِذَا مَلَك يَحْرُس السَّمَاء يُقَال لَهُ إِسْمَاعِيل مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْف مَلَك مَعَ كُلّ مَلَك مِائَة أَلْف - قَالَ - وَمَا يَعْلَم جُنُود رَبّك إِلَّا هُوَ . .. ) وَذَكَرَ الْحَدِيث إِلَى أَنْ قَالَ : ( ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاء الْخَامِسَة وَإِذَا أَنَا بِهَارُون بْن عِمْرَان الْمُحَبّ فِي قَوْمه وَحَوْله تَبَع كَثِير مِنْ أُمَّته فَوَصَفَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ طَوِيل اللِّحْيَة تَكَاد لِحْيَته تَضْرِب فِي سُرَّته ثُمَّ مَضَيْنَا إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي - فَوَصَفَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ - رَجُل كَثِير الشَّعْر وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ خَرَجَ شَعْره مِنْهُمَا . .. ) الْحَدِيث . وَرَوَى الْبَزَّار أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِفَرَسٍ فَحُمِلَ عَلَيْهِ , كُلّ خُطْوَة مِنْهُ أَقْصَى بَصَره . .. وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَة الْبُرَاق مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَيْنَا أَنَا نَائِم فِي الْحِجْر إِذْ أَتَانِي آتٍ فَحَرَّكَنِي بِرِجْلِهِ فَاتَّبَعْت الشَّخْص فَإِذَا هُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَائِم عَلَى بَاب الْمَسْجِد مَعَهُ دَابَّة دُون الْبَغْل وَفَوْق الْحِمَار وَجْههَا وَجْه إِنْسَان وَخُفّهَا خُفّ حَافِر وَذَنَبهَا ذَنَب ثَوْر وَعُرْفهَا عُرْف الْفَرَس فَلَمَّا أَدْنَاهَا مِنِّي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نَفَرَتْ وَنَفَشَتْ عُرْفهَا فَمَسَحَهَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ يَا بُرْقَة لَا تَنْفِرِي مِنْ مُحَمَّد فَوَاَللَّهِ مَا رَكِبَك مَلَك مُقَرَّب وَلَا نَبِيّ مُرْسَل أَفْضَل مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَكْرَم عَلَى اللَّه مِنْهُ قَالَتْ قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ كَذَلِكَ وَأَنَّهُ صَاحِب الشَّفَاعَة وَإِنِّي أُحِبّ أَنْ أَكُون فِي شَفَاعَته فَقُلْت أَنْتِ فِي شَفَاعَتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . .. ) الْحَدِيث . وَذَكَرَ أَبُو سَعِيد عَبْد الْمَلِك بْن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : لَمَّا مَرَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّمَاء الرَّابِعَة قَالَ : مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِح وَالنَّبِيّ الصَّالِح الَّذِي وُعِدْنَا أَنْ نَرَاهُ فَلَمْ نَرَهُ إِلَّا اللَّيْلَة قَالَ فَإِذَا فِيهَا مَرْيَم بِنْت عِمْرَان لَهَا سَبْعُونَ قَصْرًا مِنْ لُؤْلُؤ وَلِأُمِّ مُوسَى بْن عِمْرَان سَبْعُونَ قَصْرًا مِنْ مَرْجَانَة حَمْرَاء مُكَلَّلَة بِاللُّؤْلُؤِ أَبْوَابهَا وَأَسِرَّتهَا مِنْ عِرْق وَاحِد فَلَمَّا عَرَجَ الْمِعْرَاج إِلَى السَّمَاء الْخَامِسَة وَتَسْبِيح أَهْلهَا سُبْحَان مَنْ جَمَعَ بَيْن الثَّلْج وَالنَّار مَنْ قَالَهَا مَرَّة وَاحِدَة كَانَ لَهُ مِثْل ثَوَابهمْ اِسْتَفْتَحَ الْبَاب جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَفَتَحَ لَهُ فَإِذَا هُوَ بِكَهْلٍ لَمْ يُرَ قَطُّ كَهْل أَجْمَل مِنْهُ عَظِيم الْعَيْنَيْنِ تَضْرِب لِحْيَته قَرِيبًا مِنْ سُرَّته قَدْ كَادَ أَنْ تَكُون شَمْطَة وَحَوْله قَوْم جُلُوس يَقُصّ عَلَيْهِمْ فَقُلْت يَا جِبْرِيل مَنْ هَذَا قَالَ هَارُون الْمُحَبّ فِي قَوْمه . . ) وَذَكَرَ الْحَدِيث . فَهَذِهِ نُبْذَة مُخْتَصَرَة مِنْ أَحَادِيث الْإِسْرَاء خَارِجَة عَنْ الصَّحِيحَيْنِ , ذَكَرَهَا أَبُو الرَّبِيع سُلَيْمَان بْن سَبْع بِكَمَالِهَا فِي كِتَاب ( شِفَاء الصُّدُور ) لَهُ . وَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم وَجَمَاعَة أَهْل السِّيَر أَنَّ الصَّلَاة إِنَّمَا فُرِضَتْ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة فِي حِين الْإِسْرَاء حِين عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاء . وَاخْتَلَفُوا فِي تَارِيخ الْإِسْرَاء وَهَيْئَة الصَّلَاة , وَهَلْ كَانَ إِسْرَاء بِرُوحِهِ أَوْ جَسَده ; فَهَذِهِ ثَلَاث مَسَائِل تَتَعَلَّق بِالْآيَةِ , وَهِيَ مِمَّا يَنْبَغِي الْوُقُوف عَلَيْهَا وَالْبَحْث عَنْهَا , وَهِيَ أَهَمّ مِنْ سَرْد تِلْكَ الْأَحَادِيث , وَأَنَا أَذْكُر مَا وَقَفْت عَلَيْهِ فِيهَا مِنْ أَقَاوِيل الْعُلَمَاء وَاخْتِلَاف الْفُقَهَاء بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى .

فَأَمَّا الْمَسْأَلَة الْأُولَى : وَهِيَ هَلْ كَانَ إِسْرَاء بِرُوحِهِ أَوْ جَسَده ; اِخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ السَّلَف وَالْخَلَف , فَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاء بِالرُّوحِ , وَلَمْ يُفَارِق شَخْصه مَضْجَعه , وَأَنَّهَا كَانَتْ رُؤْيَا رَأَى فِيهَا الْحَقَائِق , وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاء حَقّ . ذَهَبَ إِلَى هَذَا مُعَاوِيَة وَعَائِشَة , وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَن وَابْن إِسْحَاق . وَقَالَتْ طَائِفَة : كَانَ الْإِسْرَاء بِالْجَسَدِ يَقَظَة إِلَى بَيْت الْمَقْدِس , وَإِلَى السَّمَاء بِالرُّوحِ ; وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " سُبْحَان الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى " فَجَعَلَ الْمَسْجِد الْأَقْصَى غَايَة الْإِسْرَاء . قَالُوا : وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاء بِجَسَدِهِ إِلَى زَائِد عَلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى لَذَكَرَهُ , فَإِنَّهُ كَانَ يَكُون أَبْلَغ فِي الْمَدْح . وَذَهَبَ مُعْظَم السَّلَف وَالْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ إِسْرَاء بِالْجَسَدِ وَفِي الْيَقَظَة , وَأَنَّهُ رَكِبَ الْبُرَاق بِمَكَّة , وَوَصَلَ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس وَصَلَّى فِيهِ ثُمَّ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ . وَعَلَى هَذَا تَدُلّ الْأَخْبَار الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا وَالْآيَة . وَلَيْسَ فِي الْإِسْرَاء بِجَسَدِهِ وَحَال يَقَظَته اِسْتِحَالَة , وَلَا يُعْدَل عَنْ الظَّاهِر وَالْحَقِيقَة إِلَى التَّأْوِيل إِلَّا عِنْد الِاسْتِحَالَة , وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَقَالَ بِرُوحِ عَبْده وَلَمْ يَقُلْ بِعَبْدِهِ . وَقَوْله " مَا زَاغَ الْبَصَر وَمَا طَغَى " [ النَّجْم : 17 ] يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ . وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ آيَة وَلَا مُعْجِزَة , وَلَمَا قَالَتْ لَهُ أُمّ هَانِئ : لَا تُحَدِّث النَّاس فَيُكَذِّبُوك , وَلَا فُضِّلَ أَبُو بَكْر بِالتَّصْدِيقِ , وَلِمَا أَمْكَنَ قُرَيْشًا التَّشْنِيع وَالتَّكْذِيب , وَقَدْ كَذَّبَهُ قُرَيْش فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ حَتَّى اِرْتَدَّ أَقْوَام كَانُوا آمَنُوا , فَلَوْ كَانَ بِالرُّؤْيَا لَمْ يُسْتَنْكَر , وَقَدْ قَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ : إِنْ كُنْت صَادِقًا فَخَبِّرْنَا عَنْ عِيرنَا أَيْنَ لَقِيتهَا ؟ قَالَ : ( بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا مَرَرْت عَلَيْهَا فَفَزِعَ فُلَان ) فَقِيلَ لَهُ : مَا رَأَيْت يَا فُلَان , قَالَ : مَا رَأَيْت شَيْئًا ! غَيْر أَنَّ الْإِبِل قَدْ نَفَرَتْ . قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا مَتَى تَأْتِينَا الْعِير ؟ قَالَ : ( تَأْتِيكُمْ يَوْم كَذَا وَكَذَا ) . قَالُوا : أَيَّة سَاعَة ؟ قَالَ : ( مَا أَدْرِي , طُلُوع الشَّمْس مِنْ هَاهُنَا أَسْرَع أَمْ طُلُوع الْعِير مِنْ هَاهُنَا ) . فَقَالَ رَجُل : ذَلِكَ الْيَوْم ؟ هَذِهِ الشَّمْس قَدْ طَلَعَتْ . وَقَالَ رَجُل : هَذِهِ عِيركُمْ قَدْ طَلَعَتْ , وَاسْتَخْبَرُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِفَة بَيْت الْمَقْدِس فَوَصَفَهُ لَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ قَبْل ذَلِكَ . رَوَى الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَقَدْ رَأَيْتنِي فِي الْحِجْر وَقُرَيْش تَسْأَلنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاء مِنْ بَيْت الْمَقْدِس لَمْ أُثْبِتهَا فَكُرِبْت كَرْبًا مَا كُرِبْت مِثْله قَطُّ - قَالَ - فَرَفَعَهُ اللَّه لِي أَنْظُر إِلَيْهِ فَمَا سَأَلُونِي عَنْ شَيْء إِلَّا أَنْبَأْتهمْ بِهِ ) الْحَدِيث . وَقَدْ اِعْتَرَضَ قَوْل عَائِشَة وَمُعَاوِيَة ( إِنَّمَا أُسْرِيَ بِنَفْسِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( بِأَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَة لَمْ تُشَاهِد , وَلَا حَدَّثَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا مُعَاوِيَة فَكَانَ كَافِرًا فِي ذَلِكَ الْوَقْت غَيْر مُشَاهِد لِلْحَالِ , وَلَمْ يُحَدِّث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ أَرَادَ الزِّيَادَة عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلْيَقِفْ عَلَى ( كِتَاب الشِّفَاء ) لِلْقَاضِي عِيَاض يَجِد مِنْ ذَلِكَ الشِّفَاء . وَقَدْ اِحْتَجَّ لِعَائِشَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاك إِلَّا فِتْنَة لِلنَّاسِ " [ الْإِسْرَاء : 60 ] فَسَمَّاهَا رُؤْيَا . وَهَذَا يَرُدّهُ قَوْله تَعَالَى : " سُبْحَان الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا " وَلَا يُقَال فِي النَّوْم أَسْرَى . وَأَيْضًا فَقَدْ يُقَال لِرُؤْيَةِ الْعَيْن : رُؤْيَا , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي هَذِهِ السُّورَة . وَفِي نُصُوص الْأَخْبَار الثَّابِتَة دَلَالَة وَاضِحَة عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاء كَانَ بِالْبَدَنِ , وَإِذَا وَرَدَ الْخَبَر بِشَيْءٍ هُوَ مُجَوَّز فِي الْعَقْل فِي قُدْرَة اللَّه تَعَالَى فَلَا طَرِيق إِلَى الْإِنْكَار , لَا سِيَّمَا فِي زَمَن خَرْق الْعَوَائِد , وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَارِج ; فَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون الْبَعْض بِالرُّؤْيَا , وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الصَّحِيح : ( بَيْنَا أَنَا عِنْد الْبَيْت بَيْن النَّائِم وَالْيَقْظَان . .. ) الْحَدِيث . وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَدّ مِنْ الْإِسْرَاء إِلَى نَوْم . وَاَللَّه أَعْلَم .

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة : فِي تَارِيخ الْإِسْرَاء , وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي ذَلِكَ أَيْضًا , وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى اِبْن شِهَاب ; فَرَوَى عَنْهُ مُوسَى بْن عُقْبَة أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس قَبْل خُرُوجه إِلَى الْمَدِينَة بِسَنَةٍ . وَرَوَى عَنْهُ يُونُس عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : تُوُفِّيَتْ خَدِيجَة قَبْل أَنْ تُفْرَض الصَّلَاة . قَالَ اِبْن شِهَاب : وَذَلِكَ بَعْد مَبْعَث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعَةِ أَعْوَام . وَرُوِيَ عَنْ الْوَقَّاصِيّ قَالَ : أُسْرِيَ بِهِ بَعْد مَبْعَثه بِخَمْسِ سِنِينَ . قَالَ اِبْن شِهَاب : وَفُرِضَ الصِّيَام بِالْمَدِينَةِ قَبْل بَدْر , وَفُرِضَتْ الزَّكَاة وَالْحَجّ بِالْمَدِينَةِ , وَحُرِّمَتْ الْخَمْر بَعْد أُحُد . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : أُسْرِيَ بِهِ مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى وَهُوَ بَيْت الْمَقْدِس , وَقَدْ فَشَا الْإِسْلَام بِمَكَّة فِي الْقَبَائِل . وَرَوَى عَنْهُ يُونُس بْن بُكَيْر قَالَ : صَلَّتْ خَدِيجَة مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَسَيَأْتِي . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا يَدُلّك عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاء كَانَ قَبْل الْهِجْرَة بِأَعْوَامٍ ; لِأَنَّ خَدِيجَة قَدْ تُوُفِّيَتْ قَبْل الْهِجْرَة بِخَمْسِ سِنِينَ وَقِيلَ بِثَلَاثٍ وَقِيلَ بِأَرْبَعٍ . وَقَوْل اِبْن إِسْحَاق مُخَالِف لِقَوْلِ اِبْن شِهَاب , عَلَى أَنَّ اِبْن شِهَاب قَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ الْحَرْبِيّ : أُسْرِيَ بِهِ لَيْلَة سَبْع وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْر رَبِيع الْآخِر قَبْل الْهِجْرَة بِسَنَةٍ . وَقَالَ أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْقَاسِم الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخه : أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَكَّة إِلَى بَيْت الْمَقْدِس , وَعُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاء بَعْد مَبْعَثه بِثَمَانِيَةَ عَشَر شَهْرًا . قَالَ أَبُو عُمَر : لَا أَعْلَم أَحَدًا مِنْ أَهْل السِّيَر قَالَ مَا حَكَاهُ الذَّهَبِيّ , وَلَمْ يُسْنِد قَوْله إِلَى أَحَد مِمَّنْ يُضَاف إِلَيْهِ هَذَا الْعِلْم مِنْهُمْ , وَلَا رَفَعَهُ إِلَى مَنْ يُحْتَجّ بِهِ عَلَيْهِمْ .

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة : وَأَمَّا فَرْض الصَّلَاة وَهَيْئَتهَا حِين فُرِضَتْ , فَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم وَجَمَاعَة أَهْل السِّيَر أَنَّ الصَّلَاة إِنَّمَا فُرِضَتْ بِمَكَّة لَيْلَة الْإِسْرَاء حِين عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاء , وَذَلِكَ مَنْصُوص فِي الصَّحِيح وَغَيْره . وَإِنَّمَا اِخْتَلَفُوا فِي هَيْئَتهَا حِين فُرِضَتْ ; فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاة الْحَضَر فَأُكْمِلَتْ أَرْبَعًا , وَأُقِرَّتْ صَلَاة السَّفَر عَلَى رَكْعَتَيْنِ . وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيّ وَمَيْمُون بْن مِهْرَان وَمُحَمَّد بْن إِسْحَاق . قَالَ الشَّعْبِيّ : إِلَّا الْمَغْرِب . قَالَ يُونُس بْن بُكَيْر : وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق ثُمَّ إِنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين فُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاة يَعْنِي فِي الْإِسْرَاء فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَة الْوَادِي فَانْفَجَرَتْ عَيْن مَاء فَتَوَضَّأَ جِبْرِيل وَمُحَمَّد يَنْظُر عَلَيْهِمَا السَّلَام فَوَضَّأَ وَجْهه وَاسْتَنْشَقَ وَتَمَضْمَضَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَنَضَحَ فَرْجه , ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِ سَجَدَات , فَرَجَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَقَرَّ اللَّه عَيْنه وَطَابَتْ نَفْسه وَجَاءَهُ مَا يُحِبّ مِنْ أَمْر اللَّه تَعَالَى , فَأَخَذَ بِيَدِ خَدِيجَة ثُمَّ أَتَى بِهَا الْعَيْن فَتَوَضَّأَ كَمَا تَوَضَّأَ جِبْرِيل ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَع سَجَدَات هُوَ وَخَدِيجَة , ثُمَّ كَانَ هُوَ وَخَدِيجَة يُصَلِّيَانِ سَوَاء . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهَا فُرِضَتْ فِي الْحَضَر أَرْبَعًا وَفِي السَّفَر رَكْعَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ قَالَ نَافِع بْن جُبَيْر وَالْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن الْبَصْرِيّ , وَهُوَ قَوْل اِبْن جُرَيْج , وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُوَافِق ذَلِكَ . وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام هَبَطَ صَبِيحَة لَيْلَة الْإِسْرَاء عِنْد الزَّوَال , فَعَلَّمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاة وَمَوَاقِيتهَا . وَرَوَى يُونُس بْن بُكَيْر عَنْ سَالِم مَوْلَى أَبِي الْمُهَاجِر قَالَ سَمِعْت مَيْمُون بْن مِهْرَان يَقُول : كَانَ أَوَّل الصَّلَاة مَثْنَى , ثُمَّ صَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا فَصَارَتْ سُنَّة , وَأُقِرَّتْ الصَّلَاة لِلْمُسَافِرِ وَهِيَ تَمَام . قَالَ أَبُو عُمَر : وَهَذَا إِسْنَاد لَا يُحْتَجّ بِمِثْلِهِ , وَقَوْله ( فَصَارَتْ سُنَّة ) قَوْل مُنْكَر , وَكَذَلِكَ اِسْتِثْنَاء الشَّعْبِيّ الْمَغْرِب وَحْدهَا وَلَمْ يَذْكُر الصُّبْح قَوْل لَا مَعْنَى لَهُ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ فَرْض الصَّلَاة فِي الْحَضَر أَرْبَع إِلَّا الْمَغْرِب وَالصُّبْح وَلَا يَعْرِفُونَ غَيْر ذَلِكَ عَمَلًا وَنَقْلًا مُسْتَفِيضًا , وَلَا يَضُرّهُمْ الِاخْتِلَاف فِيمَا كَانَ أَصْل فَرْضهَا .



قَدْ مَضَى الْكَلَام فِي الْأَذَان فِي " الْمَائِدَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَمَضَى فِي [ آل عِمْرَان ] أَنَّ أَوَّل مَسْجِد وُضِعَ فِي الْأَرْض الْمَسْجِد الْحَرَام , ثُمَّ الْمَسْجِد الْأَقْصَى . وَأَنَّ بَيْنهمَا أَرْبَعِينَ عَامًا مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ , وَبِنَاء سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام الْمَسْجِد الْأَقْصَى وَدُعَاؤُهُ لَهُ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَوَجْه الْجَمْع فِي ذَلِكَ ; فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ . وَنَذْكُر هُنَا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُشَدّ الرِّحَال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام وَإِلَى مَسْجِدِي هَذَا وَإِلَى مَسْجِد إِيلِيَاء أَوْ بَيْت الْمَقْدِس ) . خَرَّجَهُ مَالِك مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة . وَفِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى فَضْل هَذِهِ الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة عَلَى سَائِر الْمَسَاجِد ; لِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاء : مَنْ نَذَرَ صَلَاة فِي مَسْجِد لَا يَصِل إِلَيْهِ إِلَّا بِرِحْلَةٍ وَرَاحِلَة فَلَا يَفْعَل , وَيُصَلِّي فِي مَسْجِده , إِلَّا فِي الثَّلَاثَة الْمَسَاجِد الْمَذْكُورَة فَإِنَّهُ مَنْ نَذَرَ صَلَاة فِيهَا خَرَجَ إِلَيْهَا . وَقَدْ قَالَ مَالِك وَجَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم فِيمَنْ نَذَرَ رِبَاطًا فِي ثَغْر يَسُدّهُ : فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ الْوَفَاء حَيْثُ كَانَ الرِّبَاط لِأَنَّهُ طَاعَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَقَدْ زَادَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ فِي هَذَا الْحَدِيث مَسْجِد الْجُنْد , وَلَا يَصِحّ وَهُوَ مَوْضُوع , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب .


سُمِّيَ الْأَقْصَى لِبُعْدِ مَا بَيْنه وَبَيْن الْمَسْجِد الْحَرَام , وَكَانَ أَبْعَد مَسْجِد عَنْ أَهْل مَكَّة فِي الْأَرْض يُعَظَّم بِالزِّيَارَةِ ,



قِيلَ : بِالثِّمَارِ وَبِمَجَارِي الْأَنْهَار . وَقِيلَ : بِمَنْ دُفِنَ حَوْله مِنْ الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ ; وَبِهَذَا جَعَلَهُ مُقَدَّسًا . وَرَوَى مُعَاذ بْن جَبَل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( يَقُول اللَّه تَعَالَى يَا شَام أَنْتَ صَفْوَتِي مِنْ بِلَادِي وَأَنَا سَائِق إِلَيْك صَفْوَتِي مِنْ عِبَادِي ) .



هَذَا مِنْ بَاب تَلْوِين الْخِطَاب وَالْآيَات الَّتِي أَرَاهُ اللَّه مِنْ الْعَجَائِب الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّاس , وَإِسْرَاؤُهُ مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى فِي لَيْلَة وَهُوَ مَسِيرَة شَهْر , وَعُرُوجه إِلَى السَّمَاء وَوَصْفه الْأَنْبِيَاء وَاحِدًا وَاحِدًا , حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره .



" هُوَ " زَائِدَة فَاصِلَة . وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدهَا خَبَر وَالْجُمْلَة خَبَر إِنَّ .
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاًسورة الإسراء الآية رقم 2
أَيْ كَرَّمْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمِعْرَاجِ , وَأَكْرَمْنَا مُوسَى بِالْكِتَابِ وَهُوَ التَّوْرَاة . " وَجَعَلْنَاهُ " أَيْ ذَلِكَ الْكِتَاب . وَقِيلَ مُوسَى . وَقِيلَ مَعْنَى الْكَلَام : سُبْحَان الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وَأَتَى مُوسَى الْكِتَاب ; فَخَرَجَ مِنْ الْغِيبَة إِلَى الْإِخْبَار عَنْ نَفْسه جَلَّ وَعَزَّ . وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى سُبْحَان الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا , مَعْنَاهُ أَسْرَيْنَا , يَدُلّ عَلَيْهِ مَا بَعْده مِنْ قَوْله : " لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتنَا " [ الْإِسْرَاء : 1 ] فَحَمَلَ " وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب " عَلَى الْمَعْنَى . " أَلَّا تَتَّخِذُوا " قَرَأَ أَبُو عَمْرو ( يَتَّخِذُوا ) بِالْيَاءِ . الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ . فَيَكُون مِنْ بَاب تَلْوِين الْخِطَاب . " وَكِيلًا " أَيْ شَرِيكًا ; عَنْ مُجَاهِد . وَقِيلَ : كَفِيلًا بِأُمُورِهِمْ ; حَكَاهُ الْفَرَّاء . وَقِيلَ : رَبًّا يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ فِي أُمُورهمْ ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ . وَقَالَ الْفَرَّاء : كَافِيًا ; وَالتَّقْدِير : عَهِدْنَا إِلَيْهِ فِي الْكِتَاب أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا . وَقِيلَ : التَّقْدِير لِئَلَّا تَتَّخِذُوا . وَالْوَكِيل : مَنْ يُوَكَّل إِلَيْهِ الْأَمْر .
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًاسورة الإسراء الآية رقم 3
أَيْ يَا ذُرِّيَّة مَنْ حَمَلْنَا , عَلَى النِّدَاء ; قَالَ مُجَاهِد وَرَوَاهُ عَنْهُ اِبْن أَبِي نَجِيح . وَالْمُرَاد بِالذُّرِّيَّةِ كُلّ مَنْ اُحْتُجَّ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ , وَهُمْ جَمِيع مَنْ عَلَى الْأَرْض ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ : يَعْنِي مُوسَى وَقَوْمه مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل , وَالْمَعْنَى يَا ذُرِّيَّة مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح لَا تُشْرِكُوا . وَذَكَرَ نُوحًا لِيُذَكِّرهُمْ نِعْمَة الْإِنْجَاء مِنْ الْغَرَق عَلَى آبَائِهِمْ . وَرَوَى سُفْيَان عَنْ حُمَيْد عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَرَأَ ( ذَرِّيَّة ) بِفَتْحِ الذَّال وَتَشْدِيد الرَّاء وَالْيَاء . وَرَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَة عَامِر بْن الْوَاجِد عَنْ زَيْد بْن ثَابِت . وَرُوِيَ عَنْ زَيْد بْن ثَابِت أَيْضًا " ذِرِّيَّة " بِكَسْرِ الذَّال وَشَدّ الرَّاء . وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون " ذُرِّيَّة " مَفْعُولًا ثَانِيًا " لِتَتَّخِذُوا " وَيَكُون قَوْله : " وَكِيلًا " يُرَاد بِهِ الْجَمْع فَيَسُوغ ذَلِكَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي الْيَاء وَالتَّاء فِي " تَتَّخِذُوا " . وَيَجُوز أَيْضًا فِي الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا أَنْ يَكُون " ذُرِّيَّة " بَدَلًا مِنْ قَوْله " وَكِيلًا " لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَمْع ; فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا تَتَّخِذُوا ذُرِّيَّة مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح . وَيَجُوز نَصْبهَا بِإِضْمَارِ أَعْنِي وَأَمْدَح , وَالْعَرَب قَدْ تَنْصِب عَلَى الْمَدْح وَالذَّمّ . وَيَجُوز رَفْعهَا عَلَى الْبَدَل مِنْ الْمُضْمَر فِي " تَتَّخِذُوا " فِي قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ ; وَلَا يَحْسُن ذَلِكَ لِمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ لِأَنَّ الْمُخَاطَب لَا يُبْدَل مِنْهُ الْغَائِب . وَيَجُوز جَرّهَا عَلَى الْبَدَل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فِي الْوَجْهَيْنِ . فَأَمَّا " أَنْ " مِنْ قَوْله " أَلَّا تَتَّخِذُوا " فَهِيَ عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فِي مَوْضِع نَصْب بِحَذْفِ الْجَار , التَّقْدِير : هَدَيْنَاهُمْ لِئَلَّا يَتَّخِذُوا . وَيَصْلُح عَلَى قِرَاءَة التَّاء أَنْ تَكُون زَائِدَة وَالْقَوْل مُضْمَر كَمَا تَقَدَّمَ . وَيَصْلُح أَنْ تَكُون مُفَسَّرَة بِمَعْنَى أَيْ , لَا مَوْضِع لَهَا مِنْ الْإِعْرَاب , وَتَكُون " لَا " لِلنَّهْيِ فَيَكُون خُرُوجًا مِنْ الْخَبَر إِلَى النَّهْي .


بَيَّنَ أَنَّ نُوحًا كَانَ عَبْدًا شَكُورًا يَشْكُر اللَّه عَلَى نِعَمه وَلَا يَرَى الْخَيْر إِلَّا مِنْ عِنْده . قَالَ قَتَادَة : كَانَ إِذَا لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ : بِسْمِ اللَّه , فَإِذَا نَزَعَهُ قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ . كَذَا رَوَى عَنْهُ مَعْمَر . وَرَوَى مَعْمَر عَنْ مَنْصُور عَنْ إِبْرَاهِيم قَالَ : شُكْره إِذَا أَكَلَ قَالَ : بِسْمِ اللَّه , فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأَكْل قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ . قَالَ سَلْمَان الْفَارِسِيّ : لِأَنَّهُ كَانَ يَحْمَد اللَّه عَلَى طَعَامه . وَقَالَ عِمْرَان بْن سُلَيْم : إِنَّمَا سَمَّى نُوحًا عَبْدًا شَكُورًا لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا أَكَلَ قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي وَلَوْ شَاءَ لَأَجَاعَنِي , وَإِذَا شَرِبَ قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي سَقَانِي وَلَوْ شَاءَ لَأَظْمَأَنِي , وَإِذَا اِكْتَسَى قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي وَلَوْ شَاءَ لَأَعْرَانِي , وَإِذَا اِحْتَذَى قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي حَذَانِي وَلَوْ شَاءَ لَأَحْفَانِي , وَإِذَا قَضَى حَاجَته قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ عَنِّي الْأَذَى وَلَوْ شَاءَ لَحَبَسَهُ فِيَّ . وَمَقْصُود الْآيَة : إِنَّكُمْ مِنْ ذُرِّيَّة نُوح وَقَدْ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا فَأَنْتُمْ أَحَقّ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ دُون آبَائِكُمْ الْجُهَّال . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ مُوسَى كَانَ عَبْدًا شَكُورًا إِذْ جَعَلَهُ اللَّه مِنْ ذُرِّيَّة نُوحٍ .
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 4
قَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو الْعَالِيَة " فِي الْكُتُب " عَلَى لَفْظ الْجَمْع . وَقَدْ يَرِد لَفْظ الْوَاحِد وَيَكُون مَعْنَاهُ الْجَمْع ; فَتَكُون الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد . وَمَعْنَى " قَضَيْنَا " أَعْلَمْنَا وَأَخْبَرْنَا ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس : وَقَالَ قَتَادَة : حَكَمْنَا ; وَأَصْل الْقَضَاء الْإِحْكَام لِلشَّيْءِ وَالْفَرَاغ مِنْهُ , وَقِيلَ : قَضَيْنَا أَوْحَيْنَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ : " إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل " . وَعَلَى قَوْل قَتَادَة يَكُون " إِلَى " بِمَعْنَى عَلَى ; أَيْ قَضَيْنَا عَلَيْهِمْ وَحَكَمْنَا . وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . وَالْمَعْنِيّ بِالْكِتَابِ اللَّوْح الْمَحْفُوظ .


وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس " لَتُفْسَدُنَّ " . عِيسَى الثَّقَفِيّ " لَتُفْسُدُنَّ " . وَالْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَتَيْنِ قَرِيب ; لِأَنَّهُمْ إِذَا أَفْسَدُوا فَسَدُوا , وَالْمُرَاد بِالْفَسَادِ مُخَالَفَة أَحْكَام التَّوْرَاة . " فِي الْأَرْض " يُرِيد أَرْض الشَّام وَبَيْت الْمَقْدِس وَمَا وَالَاهَا .


اللَّام فِي " وَلَتَعْلُنَّ " لَام قَسَم مُضْمَر كَمَا تَقَدَّمَ . " عُلُوًّا كَبِيرًا " أَرَادَ التَّكَبُّر وَالْبَغْي وَالطُّغْيَان وَالِاسْتِطَالَة وَالْغَلَبَة وَالْعُدْوَان .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاًسورة الإسراء الآية رقم 5
أَيْ أُولَى الْمَرَّتَيْنِ مِنْ فَسَادهمْ .



هُمْ أَهْل بَابِل , وَكَانَ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ فِي الْمَرَّة الْأُولَى حِين كَذَّبُوا إرمياء وَجَرَحُوهُ وَحَبَسُوهُ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقَالَ قَتَادَة : أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ جَالُوت فَقَتَلَهُمْ , فَهُوَ وَقَوْمه أُولُو بَأْس شَدِيد . وَقَالَ مُجَاهِد : جَاءَهُمْ جُنْد مِنْ فَارِس يَتَجَسَّسُونَ أَخْبَارهمْ وَمَعَهُمْ بُخْتَنَصَّرَ فَوَعَى حَدِيثهمْ مِنْ بَيْن أَصْحَابه , ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى فَارِس وَلَمْ يَكُنْ قِتَال , وَهَذَا فِي الْمَرَّة الْأُولَى , فَكَانَ مِنْهُمْ جَوْس خِلَال الدِّيَار لَا قَتْل ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر . وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيّ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ جَاءَهُمْ بُخْتَنَصَّرَ فَهَزَمَهُ بَنُو إِسْرَائِيل , ثُمَّ جَاءَهُمْ ثَانِيَة فَقَتَلَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ تَدْمِيرًا . وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي خَبَر فِيهِ طُول : إِنَّ الْمَهْزُوم سَنْحَارِيب مَلِك بَابِل , جَاءَ وَمَعَهُ سِتّمِائَةِ أَلْف رَايَة تَحْت كُلّ رَايَة مِائَة أَلْف فَارِس فَنَزَلَ حَوْل بَيْت الْمَقْدِس فَهَزَمَهُ اللَّه تَعَالَى وَأَمَاتَ جَمِيعهمْ إِلَّا سَنْحَارِيب وَخَمْسَة نَفَر مِنْ كُتَّابه , وَبَعَثَ مَلِك بَنِي إِسْرَائِيل وَاسْمه صديقة فِي طَلَب سَنْحَارِيب فَأُخِذَ مَعَ الْخَمْسَة , أَحَدهمْ بُخْتَنَصَّرَ , فَطَرَحَ فِي رِقَابهمْ الْجَوَامِع وَطَافَ بِهِمْ سَبْعِينَ يَوْمًا حَوْل بَيْت الْمَقْدِس وَإِيلِيَاء وَيَرْزُقهُمْ كُلّ يَوْم خُبْزَتَيْنِ مِنْ شَعِير لِكُلِّ رَجُل مِنْهُمْ , ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى بَابِل , ثُمَّ مَاتَ سَنْحَارِيب بَعْد سَبْع سِنِينَ , وَاسْتَخْلَفَ بُخْتَنَصَّرَ وَعَظُمَتْ الْأَحْدَاث فِي بَنِي إِسْرَائِيل , وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِم وَقَتَلُوا نَبِيّهمْ شَعْيًا ; فَجَاءَهُمْ بُخْتَنَصَّرَ وَدَخَلَ هُوَ وَجُنُوده بَيْت الْمَقْدِس وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيل حَتَّى أَفْنَاهُمْ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود : أَوَّل الْفَسَاد قَتْل زَكَرِيَّا . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : فَسَادهمْ فِي الْمَرَّة الْأُولَى قَتْل شَعْيًا نَبِيّ اللَّه فِي الشَّجَرَة ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ صديقة مَلِكهمْ مَرِجَ أَمْرهمْ وَتَنَافَسُوا عَلَى الْمُلْك وَقَتَلَ بَعْضهمْ بَعْضًا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مِنْ نَبِيّهمْ ; فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ قُمْ فِي قَوْمك أُوحِ عَلَى لِسَانك , فَلَمَّا فَرَغَ مِمَّا أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ عَدَوْا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ فَانْفَلَقَتْ لَهُ شَجَرَة فَدَخَلَ فِيهَا , وَأَدْرَكَهُ الشَّيْطَان فَأَخَذَ هُدْبَة مِنْ ثَوْبه فَأَرَاهُمْ إِيَّاهَا , فَوَضَعُوا الْمِنْشَار فِي وَسَطهَا فَنَشَرُوهَا حَتَّى قَطَعُوهَا وَقَطَعُوهُ فِي وَسَطهَا . وَذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق أَنَّ بَعْض الْعُلَمَاء أَخْبَرَهُ أَنَّ زَكَرِيَّا مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ يُقْتَل وَإِنَّمَا الْمَقْتُول شَعْيًا . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر فِي قَوْله تَعَالَى : " ثُمَّ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْس شَدِيد فَجَاسُوا خِلَال الدِّيَار " هُوَ سَنْحَارِيب مِنْ أَهْل نِينَوَى بِالْمَوْصِلِ مَلِك بَابِل . وَهَذَا خِلَاف مَا قَالَ اِبْن إِسْحَاق , فَاَللَّه أَعْلَم .



قِيلَ : إِنَّهُمْ الْعَمَالِقَة وَكَانُوا كُفَّارًا , قَالَهُ الْحَسَن . وَمَعْنَى جَاسُوا : عَاثُوا وَقَتَلُوا ; وَكَذَلِكَ جَاسُوا وَهَاسُوا وَدَاسُوا , قَالَهُ اِبْن عَزِيز , وَهُوَ قَوْل الْقُتَيْبِيّ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس : ( حَاسُوا ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة . قَالَ أَبُو زَيْد : الْحَوْس وَالْجَوْس وَالَعْوَس وَالْهَوْس : الطَّوَاف بِاللَّيْلِ . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْجَوْس مَصْدَر قَوْلك جَاسُوا خِلَال الدِّيَار , أَيْ تَخَلَّلُوهَا فَطَلَبُوا مَا فِيهَا كَمَا يَجُوس الرَّجُل الْأَخْبَار أَيْ يَطْلُبهَا ; وَكَذَلِكَ الِاجْتِيَاس . وَالْجَوَسَان ( بِالتَّحْرِيكِ ) الطُّوفَان بِاللَّيْلِ ; وَهُوَ قَوْل أَبِي عُبَيْدَة . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : طَافُوا بَيْن الدِّيَار يَطْلُبُونَهُمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ ; فَجَمَعَ بَيْن قَوْل أَهْل اللُّغَة . قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَشَوْا وَتَرَدَّدُوا بَيْن الدُّور وَالْمَسَاكِن . وَقَالَ الْفَرَّاء : قَتَلُوكُمْ بَيْن بُيُوتكُمْ ; وَأَنْشَدَ لِحَسَّان : وَمِنَّا الَّذِي لَاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّد فَجَاسَ بِهِ الْأَعْدَاء عَرْض الْعَسَاكِر وَقَالَ قُطْرُب : نَزَلُوا ; قَالَ : فَجُسْنَا دِيَارهمْ عَنْوَة وَأُبْنَا بِسَادَتِهِمْ مُوثَقِينَا



أَيْ قَضَاء كَائِنًا لَا خُلْف فِيهِ .
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 6
أَيْ الدَّوْلَة وَالرَّجْعَة ; وَذَلِكَ لَمَّا تُبْتُمْ وَأَطَعْتُمْ . ثُمَّ قِيلَ : ذَلِكَ بِقَتْلِ دَاوُد جَالُوت أَوْ بِقَتْلِ غَيْره , عَلَى الْخِلَاف فِي مَنْ قَتَلَهُمْ .


حَتَّى عَادَ أَمْركُمْ كَمَا كَانَ .


أَيْ أَكْثَر عَدَدًا وَرِجَالًا مِنْ عَدُوّكُمْ . وَالنَّفِير مَنْ نَفَرَ مَعَ الرَّجُل مِنْ عَشِيرَته ; يُقَال : نَفِير وَنَافِر مِثْل قَدِير وَقَادِر وَيَجُوز أَنْ يَكُون النَّفِير جَمْع نَفْر كَالْكَلِيبِ وَالْمَعِيز وَالْعَبِيد ; قَالَ الشَّاعِر : فَأَكْرِمْ بِقَحْطَان مِنْ وَالِد وَحِمْيَر أَكْرِمْ بِقَوْمٍ نَفِيرَا وَالْمَعْنَى : أَنَّهُمْ صَارُوا بَعْد هَذِهِ الْوَقْعَة الْأُولَى أَكْثَر اِنْضِمَامًا وَأَصْلَحَ أَحْوَالًا ; جَزَاء مِنْ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ عَلَى عَوْدهمْ إِلَى الطَّاعَة .
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 7
أَيْ نَفْع إِحْسَانكُمْ عَائِد عَلَيْكُمْ .


أَيْ فَعَلَيْهَا ; نَحْو سَلَام لَك , أَيْ سَلَام عَلَيْك . قَالَ : فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ أَيْ عَلَى الْيَدَيْنِ وَعَلَى الْفَم . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : اللَّام بِمَعْنَى إِلَى , يَعْنِي وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَإِلَيْهَا , أَيْ فَإِلَيْهَا تَرْجِع الْإِسَاءَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " بِأَنَّ رَبّك أَوْحَى لَهَا " [ الزَّلْزَلَة : 5 ] أَيْ إِلَيْهَا . وَقِيلَ : فَلَهَا الْجَزَاء وَالْعِقَاب . وَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : فَلَهَا رَبّ يَغْفِر الْإِسَاءَة . ثُمَّ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيل فِي أَوَّل الْأَمْر ; أَيْ أَسَأْتُمْ فَحَلَّ بِكُمْ الْقَتْل وَالسَّبْي وَالتَّخْرِيب ثُمَّ أَحْسَنْتُمْ فَعَادَ إِلَيْكُمْ الْمُلْك وَالْعُلُوّ وَانْتِظَام الْحَال . وَيَحْتَمِل أَنَّهُ خُوطِبَ بِهَذَا بَنُو إِسْرَائِيل فِي زَمَن مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ عَرَفْتُمْ اِسْتِحْقَاق أَسْلَافكُمْ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى الْعِصْيَان فَارْتَقِبُوا مِثْله . أَوْ يَكُون خِطَابًا لِمُشْرِكِي قُرَيْش عَلَى هَذَا الْوَجْه .


مِنْ إِفْسَادكُمْ ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا فِي الْمَرَّة الثَّانِيَة يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام , قَتَلَهُ مَلِك مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل يُقَال لَهُ لاخت ; قَالَهُ الْقُتَيْبِيّ . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : اِسْمه هردوس , ذَكَرَهُ فِي التَّارِيخ ; حَمَلَهُ عَلَى قَتْله اِمْرَأَة اِسْمهَا أزبيل . وَقَالَ السُّدِّيّ : كَانَ مَلِك بَنِي إِسْرَائِيل يُكْرِم يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا وَيَسْتَشِيرهُ فِي الْأَمْر , فَاسْتَشَارَهُ الْمَلِك أَنْ يَتَزَوَّج بِنْت أَمْرَأَة لَهُ فَنَهَاهُ عَنْهَا وَقَالَ : إِنَّهَا لَا تَحِلّ لَك ; فَحَقَدَتْ أُمّهَا عَلَى يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَام , ثُمَّ أَلْبَسَتْ اِبْنَتهَا ثِيَابًا حُمْرًا رِقَاقًا وَطَيَّبَتْهَا وَأَرْسَلَتْهَا إِلَى الْمَلِك وَهُوَ عَلَى شَرَابه , وَأَمَرَتْهَا أَنْ تَتَعَرَّض لَهُ , وَإِنْ أَرَادَهَا أَبَتْ حَتَّى يُعْطِيهَا مَا تَسْأَلهُ ; فَإِذَا أَجَابَ سَأَلَتْ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِ يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا فِي طَسْت مِنْ ذَهَب ; فَفَعَلَتْ ذَلِكَ حَتَّى أُتِيَ بِرَأْسِ يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا وَالرَّأْس تَتَكَلَّم حَتَّى وُضِعَ بَيْن يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُول : لَا تَحِلّ لَك ; لَا تَحِلّ لَك ; فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا دَمه يَغْلِي , فَأَلْقَى عَلَيْهِ التُّرَاب فَغَلَى فَوْقه , فَلَمْ يَزَلْ يُلْقِي عَلَيْهِ التُّرَاب حَتَّى بَلَغَ سُوَر الْمَدِينَة وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَغْلِي ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ وَغَيْره . وَذَكَرَ اِبْن عَسَاكِر الْحَافِظ فِي تَارِيخه عَنْ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ قَالَ : كَانَ مَلِك مِنْ هَذِهِ الْمُلُوك مَاتَ وَتَرَكَ اِمْرَأَته وَابْنَته فَوَرِثَ مُلْكه أَخُوهُ , فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّج اِمْرَأَة أَخِيهِ , فَاسْتَشَارَ يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا فِي ذَلِكَ , وَكَانَتْ الْمُلُوك فِي ذَلِكَ الزَّمَان يَعْمَلُونَ بِأَمْرِ الْأَنْبِيَاء , فَقَالَ لَهُ : لَا تَتَزَوَّجهَا فَإِنَّهَا بَغِيّ ; فَعَرَفَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَة أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهَا وَصَرَفَهُ عَنْهَا , فَقَالَتْ : مِنْ أَيْنَ هَذَا ! حَتَّى بَلَغَهَا أَنَّهُ مِنْ قِبَل يَحْيَى , فَقَالَتْ : لَيُقْتَلَنَّ يَحْيَى أَوْ لَيُخْرَجَنَّ مِنْ مُلْكه , فَعَمَدَتْ إِلَى اِبْنَتهَا وَصَنَّعَتْهَا , ثُمَّ قَالَتْ : اِذْهَبِي إِلَى عَمّك عِنْد الْمَلَأ فَإِنَّهُ إِذَا رَآك سَيَدْعُوك وَيُجْلِسك فِي حِجْره , وَيَقُول سَلِينِي مَا شِئْت , فَإِنَّك لَنْ تَسْأَلِينِي شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُك , فَإِذَا قَالَ لَك ذَلِكَ فَقُولِي : لَا أَسْأَل إِلَّا رَأْس يَحْيَى . قَالَ : وَكَانَتْ الْمُلُوك إِذَا تَكَلَّمَ أَحَدهمْ بِشَيْءٍ عَلَى رُءُوس الْمَلَأ ثُمَّ لَمْ يُمْضِ لَهُ نُزِعَ مِنْ مُلْكه ; فَفَعَلَتْ ذَلِكَ . قَالَ : فَجَعَلَ يَأْتِيه الْمَوْت مِنْ قَتْله يَحْيَى , وَجَعَلَ يَأْتِيه الْمَوْت مِنْ خُرُوجه مِنْ مُلْكه , فَاخْتَارَ مُلْكه فَقَتَلَهُ . قَالَ : فَسَاخَتْ بِأُمِّهَا الْأَرْض . قَالَ اِبْن جُدْعَان : فَحَدَّثْت بِهَذَا الْحَدِيث اِبْن الْمُسَيِّب فَقَالَ أَفَمَا أَخْبَرَك كَيْفَ كَانَ قَتْل زَكَرِيَّا ؟ قُلْت لَا ; قَالَ : إِنَّ زَكَرِيَّا حَيْثُ قُتِلَ اِبْنه اِنْطَلَقَ هَارِبًا مِنْهُمْ وَاتَّبَعُوهُ حَتَّى أَتَى عَلَى شَجَرَة ذَات سَاقَ فَدَعَتْهُ إِلَيْهَا فَانْطَوَتْ عَلَيْهِ وَبَقِيَتْ مِنْ ثَوْبه هُدْبَة تَكْفِتهَا الرِّيَاح , فَانْطَلَقُوا إِلَى الشَّجَرَة فَلَمْ يَجِدُوا أَثَره بَعْدهَا , وَنَظَرُوا بِتِلْكَ الْهُدْبَة فَدَعَوْا بِالْمِنْشَارِ فَقَطَعُوا الشَّجَرَة فَقَطَعُوهُ مَعَهَا .

قُلْت : وَقَعَ فِي التَّارِيخ الْكَبِير لِلطَّبَرِيِّ فَحَدَّثَنِي أَبُو السَّائِب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ الْمِنْهَال عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( بَعَثَ عِيسَى ابْن مَرْيَم يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا فِي اِثْنَيْ عَشَر مِنْ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاس , قَالَ : كَانَ فِيمَا نَهَوْهُمْ عَنْهُ نِكَاح اِبْنَة الْأَخ , قَالَ : وَكَانَ لِمَلِكِهِمْ اِبْنَة أَخ تُعْجِبهُ . .. ) وَذَكَرَ الْخَبَر بِمَعْنَاهُ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( بُعِثَ يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا فِي اِثْنَيْ عَشَر مِنْ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاس , وَكَانَ فِيمَا يُعَلِّمُونَهُمْ يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ نِكَاح بِنْت الْأُخْت , وَكَانَ لِمَلِكِهِمْ بِنْت أُخْت تُعْجِبهُ , وَكَانَ يُرِيد أَنْ يَتَزَوَّجهَا , وَكَانَ لَهَا كُلّ يَوْم حَاجَة يَقْضِيهَا , فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أُمّهَا أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ نِكَاح بِنْت الْأُخْت قَالَتْ لَهَا : إِذَا دَخَلْت عَلَى الْمَلِك فَقَالَ أَلَك حَاجَة فَقُولِي : حَاجَتِي أَنْ تَذْبَح يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا ; فَقَالَ : سَلِينِي سِوَى هَذَا ! قَالَتْ : مَا أَسْأَلك إِلَّا هَذَا . فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ دَعَا بِطَسْتٍ وَدَعَا بِهِ فَذَبَحَهُ , فَنَدَرَتْ قَطْرَة مِنْ دَمه عَلَى وَجْه الْأَرْض فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ فَأَلْقَى فِي نَفْسه أَنْ يَقْتُل عَلَى ذَلِكَ الدَّم مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُن ذَلِكَ الدَّم , فَقَتَلَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا , فِي رِوَايَة خَمْسَة وَسَبْعِينَ أَلْفًا . قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هِيَ دِيَة كُلّ نَبِيّ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : ( أَوْحَى اللَّه إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي قَتَلْت بِيَحْيَى بْن زَكَرِيَّا سَبْعِينَ أَلْفًا , وَإِنِّي قَاتِل بِابْنِ اِبْنَتك سَبْعِينَ أَلْفًا وَسَبْعِينَ أَلْفًا ) . وَعَنْ سَمِير بْن عَطِيَّة قَالَ : قُتِلَ عَلَى الصَّخْرَة الَّتِي فِي بَيْت الْمَقْدِس سَبْعُونَ نَبِيًّا مِنْهُمْ يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا . وَعَنْ زَيْد بْن وَاقِد قَالَ : رَأَيْت رَأْس يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ أَرَادُوا بِنَاء مَسْجِد دِمَشْق أُخْرِجَ مِنْ تَحْت رُكْن مِنْ أَرْكَان الْقُبَّة الَّتِي تَلِي الْمِحْرَاب مِمَّا يَلِي الشَّرْق , فَكَانَتْ الْبَشَرَة وَالشَّعْر عَلَى حَاله لَمْ يَتَغَيَّر . وَعَنْ قُرَّة بْن خَالِد قَالَ : مَا بَكَتْ السَّمَاء عَلَى أَحَد إِلَّا عَلَى يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا وَالْحُسَيْن بْن عَلِيّ ; وَحُمْرَتهَا بُكَاؤُهَا . وَعَنْ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة قَالَ : أَوْحَش مَا يَكُون اِبْن آدَم فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن : يَوْم وُلِدَ فَيَخْرُج إِلَى دَار هَمٍّ , وَلَيْلَة يَبِيت مَعَ الْمَوْتَى فَيُجَاوِر جِيرَانًا لَمْ يَرَ مِثْلهمْ , وَيَوْم يُبْعَث فَيَشْهَد مَشْهَدًا لَمْ يَرَ مِثْله ; قَالَ اللَّه تَعَالَى لِيَحْيَى فِي هَذِهِ الثَّلَاثَة مَوَاطِن : " وَسَلَام عَلَيْهِ يَوْم وُلِدَ وَيَوْم يَمُوت وَيَوْم يُبْعَث حَيًّا " [ مَرْيَم : 15 ] . كُلّه مِنْ التَّارِيخ الْمَذْكُور .

وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ كَانَ الْمَبْعُوث عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّة الْآخِرَة ; فَقِيلَ : بُخْتَنَصَّرَ . وَقَالَهُ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر , لَمْ يَذْكُر غَيْره . قَالَ السُّهَيْلِيّ : وَهَذَا لَا يَصِحّ ; لِأَنَّ قَتْل يَحْيَى كَانَ بَعْد رَفْع عِيسَى , وَبُخْتَنَصَّرَ كَانَ قَبْل عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام بِزَمَانٍ طَوِيل , وَقَبْل الْإِسْكَنْدَر ; وَبَيْن الْإِسْكَنْدَر وَعِيسَى نَحْو مِنْ ثَلَاثمِائَةِ سَنَة , وَلَكِنَّهُ أُرِيدَ بِالْمَرَّةِ الْأُخْرَى حِين قَتَلُوا شَعْيًا , فَقَدْ كَانَ بُخْتَنَصَّرَ إِذْ ذَاكَ حَيًّا , فَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُمْ وَخَرَّبَ بَيْت الْمَقْدِس وَأَتْبَعَهُمْ إِلَى مِصْر . وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَمَنْ رَوَى أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ هُوَ الَّذِي غَزَا بَنِي إِسْرَائِيل عِنْد قَتْلهمْ يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا فَغَلَط عِنْد أَهْل السِّيَر وَالْأَخْبَار ; لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ إِنَّمَا غَزَا بَنِي إِسْرَائِيل عِنْد قَتْلهمْ شَعْيًا وَفِي عَهْد إرمياء . قَالُوا : وَمِنْ عَهْد إرمياء وَتَخْرِيب بُخْتَنَصَّرَ بَيْت الْمَقْدِس إِلَى مَوْلِد يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام أَرْبَعمِائَةِ سَنَة وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَة , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مِنْ عَهْد تَخْرِيب بَيْت الْمَقْدِس إِلَى عِمَارَته فِي عَهْد كوسك سَبْعِينَ سَنَة , ثُمَّ مِنْ بَعْد عِمَارَته إِلَى ظُهُور الْإِسْكَنْدَر عَلَى بَيْت الْمَقْدِس ثَمَانِيَة وَثَمَانِينَ سَنَة , ثُمَّ مِنْ بَعْد مَمْلَكَة الْإِسْكَنْدَر إِلَى مَوْلِد يَحْيَى ثَلَاثمِائَةِ وَثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَة .

قُلْت : ذَكَرَ جَمِيعه الطَّبَرِيّ فِي التَّارِيخ رَحِمَهُ اللَّه . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَالصَّحِيح مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق قَالَ : لَمَّا رَفَعَ اللَّه عِيسَى مِنْ بَيْن أَظْهُرهمْ وَقَتَلُوا يَحْيَى - وَبَعْض النَّاس يَقُول : لَمَّا قَتَلُوا زَكَرِيَّا - بَعَثَ اللَّه إِلَيْهِمْ مَلِكًا مِنْ مُلُوك بَابِل يُقَال لَهُ : خردوس , فَسَارَ إِلَيْهِمْ بِأَهْلِ بَابِل وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالشَّأْمِ , ثُمَّ قَالَ لِرَئِيسِ جُنُوده : كُنْت حَلَفْت بِإِلَهِي لَئِنْ أَظْهَرَنِي اللَّه عَلَى بَيْت الْمَقْدِس لَأَقْتُلَنَّهُمْ حَتَّى تَسِيل دِمَاؤُهُمْ فِي وَسَط عَسْكَرِيّ , وَأَمَرَ أَنْ يَقْتُلهُمْ حَتَّى يَبْلُغ ذَلِكَ مِنْهُمْ , فَدَخَلَ الرَّئِيس بَيْت الْمَقْدِس فَوَجَدَ فِيهَا دِمَاء تَغْلِي , فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا : دَم قُرْبَان قَرَّبْنَاهُ فَلَمْ يُتَقَبَّل مِنَّا مُنْذُ ثَمَانِينَ سَنَة . قَالَ مَا صَدَقْتُمُونِي , فَذَبَحَ عَلَى ذَلِكَ الدَّم سَبْعمِائَةٍ وَسَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ فَلَمْ يَهْدَأ , فَأَتَى بِسَبْعِمِائَةِ غُلَام مِنْ غِلْمَانهمْ فَذُبِحُوا عَلَى الدَّم فَلَمْ يَهْدَأ , فَأَمَرَ بِسَبْعَةِ آلَاف مِنْ سَبْيهمْ وَأَزْوَاجهمْ فَذَبَحَهُمْ عَلَى الدَّم فَلَمْ يَبْرُد , فَقَالَ : يَا بَنِي إِسْرَائِيل , اُصْدُقُونِي قَبْل أَلَّا أَتْرُك مِنْكُمْ نَافِخ نَار مِنْ أُنْثَى وَلَا مِنْ ذَكَر إِلَّا قَتَلْته . فَلَمَّا رَأَوْا الْجَهْد قَالُوا : إِنَّ هَذَا دَم نَبِيّ مِنَّا كَانَ يَنْهَانَا عَنْ أُمُور كَثِيرَة مِنْ سَخَط اللَّه فَقَتَلْنَاهُ , فَهَذَا دَمه , كَانَ اِسْمه يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا , مَا عَصَى اللَّه قَطُّ طَرْفَة عَيْن وَلَا هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ . فَقَالَ : الْآن صَدَقْتُمُونِي , وَخَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ : لِمِثْلِ هَذَا يُنْتَقَم مِنْكُمْ , وَأَمَرَ بِغَلْقِ الْأَبْوَاب وَقَالَ : أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ جَيْش خردوس , وَخَلَا فِي بَنِي إِسْرَائِيل وَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه يَا يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا قَدْ عَلِمَ رَبِّي وَرَبّك مَا قَدْ أَصَابَ قَوْمك مِنْ أَجْلك , فَاهْدَأْ بِإِذْنِ اللَّه قَبْل أَلَّا أُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا . فَهَدَأَ دَم يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا بِإِذْنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَرَفَعَ عَنْهُمْ الْقَتْل وَقَالَ : رَبّ إِنِّي آمَنْت بِمَا آمَنَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل وَصَدَّقْت بِهِ ; فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى رَأْس مِنْ رُءُوس الْأَنْبِيَاء : إِنَّ هَذَا الرَّئِيس مُؤْمِن صَدُوق . ثُمَّ قَالَ : إِنَّ عَدُوّ اللَّه خردوس أَمَرَنِي أَنْ أَقْتُل مِنْكُمْ حَتَّى تَسِيل دِمَاؤُكُمْ وَسَط عَسْكَره , وَإِنِّي لَا أَعْصِيه , فَأَمَرَهُمْ فَحَفَرُوا خَنْدَقًا وَأَمَرَ بِأَمْوَالِهِمْ مِنْ الْإِبِل وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير وَالْبَقَر وَالْغَنَم فَذَبَحُوهَا حَتَّى سَالَ الدَّم إِلَى الْعَسْكَر , وَأَمَرَ بِالْقَتْلَى الَّذِينَ كَانُوا قُتِلُوا قَبْل ذَلِكَ فَطُرِحُوا عَلَى مَا قُتِلَ مِنْ مَوَاشِيهمْ , ثُمَّ اِنْصَرَفَ عَنْهُمْ إِلَى بَابِل , وَقَدْ كَادَ أَنْ يُفْنِي بَنِي إِسْرَائِيل .

قُلْت : قَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث مَرْفُوع فِيهِ طُول مِنْ حَدِيث حُذَيْفَة , وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة مُقَطَّعًا فِي أَبْوَاب فِي أَخْبَار الْمَهْدِيّ , نَذْكُر مِنْهَا هُنَا مَا يُبَيِّن مَعْنَى الْآيَة وَيُفَسِّرهَا حَتَّى لَا يَحْتَاج مَعَهُ إِلَى بَيَان , قَالَ حُذَيْفَة : قُلْت يَا رَسُول اللَّه , لَقَدْ كَانَ بَيْت الْمَقْدِس عِنْد اللَّه عَظِيمًا جَسِيم الْخَطَر عَظِيم الْقَدْر . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هُوَ مِنْ أَجَلّ الْبُيُوت اِبْتَنَاهُ اللَّه لِسُلَيْمَان بْن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام مِنْ ذَهَب وَفِضَّة وَدُرّ وَيَاقُوت وَزُمُرُّد ) : وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَان بْن دَاوُد لَمَّا بَنَاهُ سَخَّرَ اللَّه لَهُ الْجِنّ فَأَتَوْهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة مِنْ الْمَعَادِن , وَأَتَوْهُ بِالْجَوَاهِرِ وَالْيَاقُوت وَالزُّمُرُّد , وَسَخَّرَ اللَّه تَعَالَى لَهُ الْجِنّ حَتَّى بَنَوْهُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَاف . قَالَ حُذَيْفَة : فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه , وَكَيْفَ أُخِذَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاء مِنْ بَيْت الْمَقْدِس . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل لَمَّا عَصَوْا اللَّه وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاء سَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ وَهُوَ مِنْ الْمَجُوس وَكَانَ مُلْكه سَبْعمِائَةِ سَنَة , وَهُوَ قَوْله : " فَإِذَا جَاءَ وَعْد أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْس شَدِيد فَجَاسُوا خِلَال الدِّيَار وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا " فَدَخَلُوا بَيْت الْمَقْدِس وَقَتَلُوا الرِّجَال وَسَبَوْا النِّسَاء وَالْأَطْفَال وَأَخَذُوا الْأَمْوَال وَجَمِيع مَا كَانَ فِي بَيْت الْمَقْدِس مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَاف فَاحْتَمَلُوهَا عَلَى سَبْعِينَ أَلْفًا وَمِائَة أَلْف عَجَلَة حَتَّى أَوْدَعُوهَا أَرْض بَابِل , فَأَقَامُوا يَسْتَخْدِمُونَ بَنِي إِسْرَائِيل ويَسْتَملكُونَهُم بِالْخِزْيِ وَالْعِقَاب وَالنَّكَال مِائَة عَام , ثُمَّ إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ رَحِمَهُمْ فَأَوْحَى إِلَى مَلِك مِنْ مُلُوك فَارِس أَنْ يَسِير إِلَى الْمَجُوس فِي أَرْض بَابِل , وَأَنْ يَسْتَنْقِذ مَنْ فِي أَيْدِيهمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل ; فَسَارَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ الْمَلِك حَتَّى دَخَلَ أَرْض بَابِل فَاسْتَنْقَذَ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل مِنْ أَيْدِي الْمَجُوس وَاسْتَنْقَذَ ذَلِكَ الْحُلِيّ الَّذِي كَانَ فِي بَيْت الْمَقْدِس وَرَدَّهُ اللَّه إِلَيْهِ كَمَا كَانَ أَوَّل مَرَّة وَقَالَ لَهُمْ : يَا بَنِي إِسْرَائِيل إِنْ عُدْتُمْ إِلَى الْمَعَاصِي عُدْنَا عَلَيْكُمْ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْل , وَهُوَ قَوْله : " عَسَى رَبّكُمْ أَنْ يَرْحَمكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا " [ الْإِسْرَاء : 8 ] فَلَمَّا رَجَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيل إِلَى بَيْت الْمَقْدِس عَادُوا إِلَى الْمَعَاصِي فَسَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ مَلِك الرُّوم قَيْصَر , وَهُوَ قَوْله : " فَإِذَا جَاءَ وَعْد الْآخِرَة لِيَسُوءُوا وُجُوهكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّل مَرَّة وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا " فَغَزَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْر فَسَبَاهُمْ وَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالهمْ وَنِسَاءَهُمْ , وَأَخَذَ حُلِيّ جَمِيع بَيْت الْمَقْدِس وَاحْتَمَلَهُ عَلَى سَبْعِينَ أَلْفًا وَمِائَة أَلْف عَجَلَة حَتَّى أَوْدَعَهُ فِي كَنِيسَة الذَّهَب , فَهُوَ فِيهَا الْآن حَتَّى يَأْخُذهُ الْمَهْدِيّ فَيَرُدّهُ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس , وَهُوَ أَلْف سَفِينَة وَسَبْعمِائَةِ سَفِينَة يُرْسَى بِهَا عَلَى يَافَا حَتَّى تُنْقَل إِلَى بَيْت الْمَقْدِس وَبِهَا يَجْمَع اللَّه الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ . .. وَذَكَرَ الْحَدِيث .

" فَإِذَا جَاءَ وَعْد الْآخِرَة " أَيْ مِنْ الْمَرَّتَيْنِ ; وَجَوَاب " إِذَا " مَحْذُوف , تَقْدِيره بَعَثْنَاهُمْ ; دَلَّ عَلَيْهِ " بَعَثْنَا " الْأَوَّل .



أَيْ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْل فَيَظْهَر أَثَر الْحُزْن فِي وُجُوهكُمْ ; ف " لِيَسُوءُوا " مُتَعَلِّق بِمَحْذُوفٍ ; أَيْ بَعَثْنَا عِبَادًا لِيَفْعَلُوا بِكُمْ مَا يَسُوء وُجُوهكُمْ . قِيلَ : الْمُرَاد بِالْوُجُوهِ السَّادَة ; أَيْ لِيُذِلُّوهُمْ . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ " لِنَسُوءَ " بِنُونٍ وَفَتْح الْهَمْزَة , فِعْل مُخْبِر عَنْ نَفْسه مُعَظَّم , اِعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ " وَقَضَيْنَا - وَبَعَثْنَا - وَرَدَدْنَا " . وَنَحْوه عَنْ عَلِيّ . وَتَصْدِيقهَا قِرَاءَة أَبِي ( لَأَسُوءَن ) بِالنُّونِ وَحَرْف التَّوْكِيد . وَقَرَأَ أَبُو بَكْر وَالْأَعْمَش وَابْن وَثَّاب وَحَمْزَة وَابْن عَامِر ( لِيَسُوءَ ) بِالْيَاءِ عَلَى التَّوْحِيد وَفَتْح الْهَمْزَة ; وَلَهَا وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : لِيَسُوءَ اللَّه وُجُوهكُمْ . وَالثَّانِي : لِيَسُوءَ الْوَعْد وُجُوهكُمْ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " لِيَسُوءُوا " بِالْيَاءِ وَضَمّ الْهَمْزَة عَلَى الْجَمْع ; أَيْ لِيَسُوءَ الْعِبَاد الَّذِينَ هُمْ أُولُو بَأْس شَدِيد وُجُوهكُمْ .



أَيْ لِيُدَمِّرُوا وَيُهْلِكُوا . وَقَالَ قُطْرُب : يَهْدِمُوا ; قَالَ الشَّاعِر : فَمَا النَّاس إِلَّا عَامِلَانِ فَعَامِل يُتَبِّر مَا يَبْنِي وَآخَر رَافِع



أَيْ غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادكُمْ " تَتْبِيرًا " .
عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 8
وَهَذَا مِمَّا أُخْبِرُوا بِهِ فِي كِتَابهمْ . و " عَسَى " وَعْد مِنْ اللَّه أَنْ يَكْشِف عَنْهُمْ . و " عَسَى " مِنْ اللَّه وَاجِبَة . " أَنْ يَرْحَمكُمْ " بَعْد اِنْتِقَامه مِنْكُمْ , وَكَذَلِكَ كَانَ ; فَكَثُرَ عَدَدهمْ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْمُلُوك .


قَالَ قَتَادَة : فَعَادُوا فَبَعَثَ اللَّه عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَة بِالصَّغَارِ ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَهَذَا خِلَاف مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيث وَغَيْره وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقَدْ حَلَّ الْعِقَاب بِبَنِي إِسْرَائِيل مَرَّتَيْنِ عَلَى أَيْدِي الْكُفَّار , وَمَرَّة عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا حِين عَادُوا فَعَادَ اللَّه عَلَيْهِمْ .


قَالَ قَتَادَة أَيْ مَحْبِسًا وَسِجْنًا , مِنْ الْحَصْر وَهُوَ الْحَبْس . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : يُقَال حَصَرَهُ يَحْصُرهُ حَصْرًا ضَيَّقَ عَلَيْهِ وَأَحَاطَ بِهِ . وَالْحَصِير : الضَّيِّق الْبَخِيل . وَالْحَصِير : الْبَارِيَّة . وَالْحَصِير : الْجَنْب , قَالَ الْأَصْمَعِيّ : هُوَ مَا بَيْن الْعِرْق الَّذِي يَظْهَر فِي جَنْب الْبَعِير وَالْفَرَس مُعْتَرِضًا فَمَا فَوْقه إِلَى مُنْقَطِع الْجَنْب . وَالْحَصِير : الْمُلْك ; لِأَنَّهُ مَحْجُوب . قَالَ لَبِيد : وَقَمَاقِم غُلْب الرِّقَاب كَأَنَّهُمْ جِنّ لَدَى بَاب الْحَصِير قِيَام وَيُرْوَى : وَمَقَامَة غُلْب الرِّقَاب . .. عَلَى أَنْ يَكُون ( غُلْب ) بَدَلًا مِنْ ( مَقَامَة ) كَأَنَّهُ قَالَ : وَرُبَّ غُلْب الرِّقَاب . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَة : ... لَدَى طَرَف الْحَصِير قِيَام أَيْ عِنْد طَرَف الْبِسَاط لِلنُّعْمَانِ بْن الْمُنْذِر . وَالْحَصِير : الْمَحْبِس ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَجَعَلْنَا جَهَنَّم لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا " . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَيُقَال لِلَّذِي يَفْتَرِش حَصِير ; لِحَصْرِ بَعْضه عَلَى بَعْض بِالنَّسْجِ . وَقَالَ الْحَسَن : أَيْ فِرَاشًا وَمِهَادًا ; ذَهَبَ إِلَى الْحَصِير الَّذِي يُفْرَش , لِأَنَّ الْعَرَب تُسَمِّي الْبِسَاط الصَّغِير حَصِيرًا . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَهُوَ وَجْه حَسَن .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 9
لَمَّا ذَكَرَ الْمِعْرَاج ذَكَرَ مَا قَضَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل , وَكَانَ ذَلِكَ دَلَالَة عَلَى نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْكِتَاب الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّه عَلَيْهِ سَبَب اِهْتِدَاء . وَمَعْنَى " لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم " أَيْ الطَّرِيقَة الَّتِي هِيَ أَسَدّ وَأَعْدَل وَأَصْوَب ; ف " الَّتِي " نَعْت لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوف , أَيْ الطَّرِيقَة إِلَى نَصّ أَقْوَم . وَقَالَ الزَّجَّاج : لِلْحَالِ الَّتِي هِيَ أَقْوَم الْحَالَات , وَهِيَ تَوْحِيد اللَّه وَالْإِيمَان بِرُسُلِهِ . وَقَالَهُ الْكَلْبِيّ وَالْفَرَّاء .


التَّبْشِير الْإِخْبَار بِمَا يَظْهَر أَثَره عَلَى الْبَشَرَة - وَهِيَ ظَاهِر الْجِلْد لِتَغَيُّرِهَا بِأَوَّلِ خَبَر يَرِد عَلَيْك , ثُمَّ الْغَالِب أَنْ يُسْتَعْمَل فِي السُّرُور مُقَيَّدًا بِالْخَيْرِ الْمُبَشَّر بِهِ , وَغَيْر مُقَيَّد أَيْضًا . وَلَا يُسْتَعْمَل فِي الْغَمّ وَالشَّرّ إِلَّا مُقَيَّدًا مَنْصُوصًا عَلَى الشَّرّ الْمُبَشَّر بِهِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى " فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم " [ الْجَاثِيَة : 8 ] وَيُقَال : بَشَرْته وَبَشَّرْته - مُخَفَّف وَمُشَدَّد - بِشَارَة بِكَسْرِ الْبَاء فَأَبْشَرَ وَاسْتَبْشَرَ . وَبَشِرَ يَبْشَر إِذَا فَرِحَ . وَوَجْه بَشِير إِذَا كَانَ حَسَنًا بَيِّن الْبَشَارَة بِفَتْحِ الْبَاء . وَالْبُشْرَى : مَا يُعْطَاهُ الْمُبَشِّر . وَتَبَاشِير الشَّيْء : أَوَّله .

أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّف إِذَا قَالَ : مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرّ , فَبَشَّرَهُ وَاحِد مِنْ عَبِيده فَأَكْثَرَ فَإِنَّ أَوَّلهمْ يَكُون حُرًّا دُون الثَّانِي . وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ : مَنْ أَخْبَرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرّ فَهَلْ يَكُون الثَّانِي مِثْل الْأَوَّل ; فَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ : نَعَمْ , لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ مُخْبِر . وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا ; لِأَنَّ الْمُكَلَّف إِنَّمَا قَصَدَ خَبَرًا يَكُون بِشَارَة , وَذَلِكَ يَخْتَصّ بِالْأَوَّلِ , وَهَذَا مَعْلُوم عُرْفًا فَوَجَبَ صَرْف الْقَوْل إِلَيْهِ . وَفَرَّقَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن بَيْن قَوْله : أَخْبَرَنِي , أَوْ حَدَّثَنِي , فَقَالَ : إِذَا قَالَ الرَّجُل أَيّ غُلَام لِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا , أَوْ أَعْلَمَنِي بِكَذَا وَكَذَا فَهُوَ حُرّ - وَلَا نِيَّة لَهُ - فَأَخْبَرَهُ غُلَام لَهُ بِذَلِكَ بِكِتَابٍ أَوْ كَلَام أَوْ رَسُول فَإِنَّ الْغُلَام يُعْتَق ; لِأَنَّ هَذَا خَبَر . وَإِنْ أَخْبَرَهُ بَعْد ذَلِكَ غُلَام لَهُ عَتَقَ , لِأَنَّهُ قَالَ : أَيّ غُلَام أَخْبَرَنِي فَهُوَ حُرّ . وَلَوْ أَخْبَرُوهُ كُلّهمْ عَتَقُوا , وَإِنْ كَانَ عَنَى - حِين حَلَفَ - بِالْخَبَرِ كَلَام مُشَافَهَة لَمْ يُعْتَق وَاحِد مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُخْبِرهُ بِكَلَامٍ مُشَافَهَة بِذَلِكَ الْخَبَر . قَالَ : وَإِذَا قَالَ أَيّ غُلَام لِي حَدَّثَنِي , فَهَذَا عَلَى الْمُشَافَهَة , لَا يُعْتَق وَاحِد مِنْهُمْ . وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " وَيَبْشُر " مُخَفَّفًا بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الشِّين ; وَقَدْ ذُكِرَ .


رَدّ عَلَى مَنْ يَقُول : إِنَّ الْإِيمَان بِمُجَرَّدِهِ يَقْتَضِي الطَّاعَات , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا أَعَادَهَا فَالْجَنَّة تُنَال بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَل الصَّالِح . وَقِيلَ : الْجَنَّة تُنَال بِالْإِيمَانِ , وَالدَّرَجَات تُسْتَحَقّ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَات . وَاَللَّه أَعْلَم .


فِي مَوْضِع نَصْب ب " يُبَشِّر " وَقَالَ الْكِسَائِيّ وَجَمَاعَة مِنْ الْبَصْرِيِّينَ : " أَنَّ " فِي مَوْضِع خَفْض بِإِضْمَارِ الْبَاء . أَيْ بِأَنَّ لَهُمْ .


أَيْ الْجَنَّة .
وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًاسورة الإسراء الآية رقم 10
أَيْ وَيُبَشِّرهُمْ بِأَنَّ لِأَعْدَائِهِمْ الْعِقَاب . وَالْقُرْآن مُعْظَمه وَعْد وَوَعِيد .


" أَلِيم " فِي كَلَام الْعَرَب مَعْنَاهُ مُؤْلِم أَيْ مُوجِع , مِثْل السَّمِيع بِمَعْنَى الْمُسْمِع ;

قَالَ ذُو الرُّمَّة يَصِف إِبِلًا : وَنَرْفَع مِنْ صُدُور شَمَرْدَلَات يَصُكّ وُجُوههَا وَهَج أَلِيم وَآلَمَ إِذَا أَوْجَعَ . وَالْإِيلَام : الْإِيجَاع . وَالْأَلَم : الْوَجَع , وَقَدْ أَلِمَ يَأْلَم أَلَمًا . وَالتَّأَلُّم : التَّوَجُّع . وَيُجْمَع أَلِيم عَلَى أَلْمَاء مِثْل كَرِيم وَكُرَمَاء , وَآلَام مِثْل أَشْرَاف .
وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاًسورة الإسراء الآية رقم 11
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : هُوَ دُعَاء الرَّجُل عَلَى نَفْسه وَوَلَده عِنْد الضَّجَر بِمَا لَا يُحِبّ أَنْ يُسْتَجَاب لَهُ : اللَّهُمَّ أَهْلِكْهُ , وَنَحْوه .


أَيْ كَدُعَائِهِ رَبّه أَنْ يَهَب لَهُ الْعَافِيَة ; فَلَوْ اِسْتَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ عَلَى نَفْسه بِالشَّرِّ هَلَكَ لَكِنْ بِفَضْلِهِ لَا يَسْتَجِيب لَهُ فِي ذَلِكَ . نَظِيره : " وَلَوْ يُعَجِّل اللَّه لِلنَّاسِ الشَّرّ اِسْتِعْجَالهمْ بِالْخَيْرِ " [ يُونُس : 11 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي النَّضْر بْن الْحَارِث , كَانَ يَدْعُو وَيَقُول : " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِنْدك فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة مِنْ السَّمَاء أَوْ اِئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيم " [ الْأَنْفَال : 32 ] . وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَدْعُو فِي طَلَب الْمَحْظُور كَمَا يَدْعُو فِي طَلَب الْمُبَاح , قَالَ الشَّاعِر وَهُوَ اِبْن جَامِع : أَطُوف بِالْبَيْتِ فِيمَنْ يَطُوف وَأَرْفَع مِنْ مِئْزَرِي الْمُسْبَل وَأَسْجُد بِاللَّيْلِ حَتَّى الصَّبَاح وَأَتْلُو مِنْ الْمُحْكَم الْمُنْزَل عَسَى فَارِج الْهَمّ عَنْ يُوسُف يُسَخِّر لِي رَبَّة الْمَحْمِل قَالَ الْجَوْهَرِيّ : يُقَال مَا عَلَى فُلَان مَحْمِل مِثَال مَجْلِس أَيْ مُعْتَمَد . وَالْمَحْمِل أَيْضًا : وَاحِد مَحَامِل الْحَاجّ . وَالْمِحْمَل مِثَال الْمِرْجَل : عِلَاقَة السَّيْف . وَحُذِفَتْ الْوَاو مِنْ " وَيَدْعُ الْإِنْسَان " فِي اللَّفْظ وَالْخَطّ وَلَمْ تُحْذَف فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ مَوْضِعهَا رَفْع فَحُذِفَتْ لِاسْتِقْبَالِهَا اللَّام السَّاكِنَة ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة " [ الْعَلَق : 18 ] " وَيَمْحُ اللَّه الْبَاطِل " [ الشُّورَى : 24 ] " وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ " [ النِّسَاء : 146 ] " يُنَادِ الْمُنَادِ " [ ق : 41 ] " فَمَا تُغْنِ النُّذُر " [ الْقَمَر : 5 ] .



أَيْ طَبْعه الْعَجَلَة , فَيُعَجِّل بِسُؤَالِ الشَّرّ كَمَا يُعَجِّل بِسُؤَالِ الْخَيْر . وَقِيلَ : أَشَارَ بِهِ إِلَى آدَم عَلَيْهِ السَّلَام حِين نَهَضَ قَبْل أَنْ تُرَكَّب فِيهِ الرُّوح عَلَى الْكَمَال . قَالَ سَلْمَان : أَوَّل مَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى مِنْ آدَم رَأْسه فَجَعَلَ يَنْظُر وَهُوَ يَخْلُق جَسَده , فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْعَصْر بَقِيَتْ رِجْلَاهُ لَمْ يُنْفَخ فِيهِمَا الرُّوح فَقَالَ : يَا رَبّ عَجِّلْ قَبْل اللَّيْل ; فَذَلِكَ قَوْله : " وَكَانَ الْإِنْسَان عَجُولًا " . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا اِنْتَهَتْ النَّفْخَة إِلَى سُرَّته نَظَرَ إِلَى جَسَده فَذَهَبَ لِيَنْهَض فَلَمْ يَقْدِر ; فَذَلِكَ قَوْله : " وَكَانَ الْإِنْسَان عَجُولًا " . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : لَمَّا دَخَلَ الرُّوح فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَار الْجَنَّة ; فَذَلِكَ حِين يَقُول : " خُلِقَ الْإِنْسَان مِنْ عَجَل " ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَمَّا صَوَّرَ اللَّه تَعَالَى آدَم فِي الْجَنَّة تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَتْرُكهُ فَجَعَلَ إِبْلِيس يُطِيف بِهِ يَنْظُر مَا هُوَ فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَف عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَك ) وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : سَلَّمَ عَلَيْهِ السَّلَام أَسِيرًا إِلَى سَوْدَة فَبَاتَ يَئِنّ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ : أَنِينِي لِشِدَّةِ الْقِدّ وَالْأَسْر ; فَأَرْخَتْ مِنْ كِتَافِهِ فَلَمَّا نَامَتْ هَرَبَ ; فَأَخْبَرَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( قَطَعَ اللَّه يَدَيْك ) فَلَمَّا أَصْبَحَتْ كَانَتْ تَتَوَقَّع الْآفَة ; فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنِّي سَأَلْت اللَّه تَعَالَى أَنْ يَجْعَل دُعَائِي عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقّ مِنْ أَهْلِي لِأَنِّي بَشَر أَغْضَب كَمَا يَغْضَب الْبَشَر ) وَنَزَلَتْ الْآيَة ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر رَحِمَهُ اللَّه . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( اللَّهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّد بَشَر يَغْضَب كَمَا يَغْضَب الْبَشَر وَإِنِّي قَدْ اِتَّخَذْت عِنْدك عَهْدًا لَنْ تَخْلُفِينَهُ فَأَيّمَا مُؤْمِن آذَيْته أَوْ سَبَبْته أَوْ جَلَدْته فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَة وَقُرْبَة تُقَرِّبهُ بِهَا إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة ) . وَفِي الْبَاب عَنْ عَائِشَة وَجَابِر . وَقِيلَ : مَعْنَى " وَكَانَ الْإِنْسَان عَجُولًا " أَيْ يُؤْثِر الْعَاجِل وَإِنْ قَلَّ , عَلَى الْآجِل وَإِنْ جَلَّ .
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاًسورة الإسراء الآية رقم 12
أَيْ عَلَامَتَيْنِ عَلَى وَحْدَانِيّتنَا وَوُجُودنَا وَكَمَال عِلْمنَا وَقُدْرَتنَا . وَالْآيَة فِيهِمَا : إِقْبَال كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَم , وَإِدْبَاره إِلَى حَيْثُ لَا يَعْلَم . وَنُقْصَان أَحَدهمَا بِزِيَادَةِ الْآخَر وَبِالْعَكْسِ آيَة أَيْضًا . وَكَذَلِكَ ضَوْء النَّهَار وَظُلْمَة اللَّيْل . وَقَدْ مَضَى هَذَا .


وَلَمْ يَقُلْ : فَمَحَوْنَا اللَّيْل , فَلَمَّا أَضَافَ الْآيَة إِلَى اللَّيْل وَالنَّهَار دَلَّ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَهُمَا لَا هُمَا . و " مَحَوْنَا " مَعْنَاهُ طَمَسْنَا . وَفِي الْخَبَر أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَأَمَرَّ جَنَاحه عَلَى وَجْه الْقَمَر فَطَمَسَ عَنْهُ الضَّوْء وَكَانَ كَالشَّمْسِ فِي النُّور , وَالسَّوَاد الَّذِي يُرَى فِي الْقَمَر مِنْ أَثَر الْمَحْو . قَالَ اِبْن عَبَّاس : جَعَلَ اللَّه الشَّمْس سَبْعِينَ جُزْءًا وَالْقَمَر سَبْعِينَ جُزْءًا , فَمَحَا مِنْ نُور الْقَمَر تِسْعَة وَسِتِّينَ جُزْءًا فَجَعَلَهُ مَعَ نُور الشَّمْس , فَالشَّمْس عَلَى مِائَة وَتِسْع وَثَلَاثِينَ جُزْءًا وَالْقَمَر عَلَى جُزْء وَاحِد . وَعَنْهُ أَيْضًا : خَلَقَ اللَّه شَمْسَيْنِ مِنْ نُور عَرْشه , فَجَعَلَ مَا سَبَقَ فِي عِلْمه أَنْ يَكُون شَمْسًا مِثْل الدُّنْيَا عَلَى قَدْرهَا مَا بَيْن مَشَارِقهَا إِلَى مَغَارِبهَا , وَجَعَلَ الْقَمَر دُون الشَّمْس ; فَأَرْسَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَأَمَرَّ جَنَاحه عَلَى وَجْهه ثَلَاث مَرَّات وَهُوَ يَوْمئِذٍ شَمْس فَطَمَسَ ضَوْءه وَبَقِيَ نُوره ; فَالسَّوَاد الَّذِي تَرَوْنَهُ فِي الْقَمَر أَثَر الْمَحْو , وَلَوْ تَرَكَهُ شَمْسًا لَمْ يُعْرَف اللَّيْل مِنْ النَّهَار ذَكَرَ عَنْهُ الْأَوَّل الثَّعْلَبِيّ وَالثَّانِي الْمَهْدَوِيّ ; وَسَيَأْتِي مَرْفُوعًا . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَتَادَة : يُرِيد بِالْمَحْوِ اللَّطْخَة السَّوْدَاء الَّتِي فِي الْقَمَر , لِيَكُونَ ضَوْء الْقَمَر أَقَلّ مِنْ ضَوْء الشَّمْس فَيَتَمَيَّز بِهِ اللَّيْل مِنْ النَّهَار .



أَيْ جَعَلْنَا شَمْسه مُضِيئَة لِلْأَبْصَارِ . قَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : أَيْ يُبْصَر بِهَا . قَالَ الْكِسَائِيّ : وَهُوَ مِنْ قَوْل الْعَرَب أَبْصَرَ النَّهَار إِذَا أَضَاءَ , وَصَارَ بِحَالَةٍ يُبْصَر بِهَا . وَقِيلَ : هُوَ كَقَوْلِهِمْ خَبِيث مُخْبِث إِذَا كَانَ أَصْحَابه خُبَثَاء . وَرَجُل مُضْعِف إِذَا كَانَتْ دَوَابّه ضِعَافًا ; فَكَذَلِكَ النَّهَار مُبْصِرًا إِذَا كَانَ أَهْله بُصَرَاء .


يُرِيد التَّصَرُّف فِي الْمَعَاش . وَلَمْ يَذْكُر السُّكُون فِي اللَّيْل اِكْتِفَاء بِمَا ذَكَرَ فِي النَّهَار . وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِع آخَر : " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْل لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَار مُبْصِرًا " [ يُونُس : 67 ] .


أَيْ لَوْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ لَمَا عُرِفَ اللَّيْل مِنْ النَّهَار , وَلَا كَانَ يُعْرَف الْحِسَاب وَالْعَدَد .



أَيْ مِنْ أَحْكَام التَّكْلِيف ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء " [ النَّحْل : 89 ] " مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَاب مِنْ شَيْء " [ الْأَنْعَام : 38 ] . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَمَّا أَبْرَمَ اللَّه خَلْقه فَلَمْ يَبْقَ مِنْ خَلْقه غَيْر آدَم خَلَقَ شَمْسًا مِنْ نُور عَرْشه وَقَمَرًا فَكَانَا جَمِيعًا شَمْسَيْنِ فَأَمَّا مَا كَانَ فِي سَابِق عِلْم اللَّه أَنْ يَدَعهَا شَمْسًا فَخَلَقَهَا مِثْل الدُّنْيَا مَا بَيْن مَشَارِقهَا وَمَغَارِبهَا وَأَمَّا مَا كَانَ فِي عِلْم اللَّه أَنْ يَخْلُقهَا قَمَرًا فَخَلَقَهَا دُون الشَّمْس فِي الْعِظَم وَلَكِنْ إِنَّمَا يُرَى صِغَرهمَا مِنْ شِدَّة اِرْتِفَاع السَّمَاء وَبُعْدهَا مِنْ الْأَرْض فَلَوْ تَرَكَ اللَّه الشَّمْس وَالْقَمَر كَمَا خَلَقَهُمَا لَمْ يُعْرَف اللَّيْل مِنْ النَّهَار وَلَا كَانَ الْأَجِير يَدْرِي إِلَى مَتَى يَعْمَل وَلَا الصَّائِم إِلَى مَتَى يَصُوم وَلَا الْمَرْأَة كَيْفَ تَعْتَدّ وَلَا تُدْرَى أَوْقَات الصَّلَوَات وَالْحَجّ وَلَا تَحِلّ الدُّيُون وَلَا حِين يَبْذُرُونَ وَيَزْرَعُونَ وَلَا مَتَى يَسْكُنُونَ لِلرَّاحَةِ لِأَبْدَانِهِمْ وَكَأَنَّ اللَّه نَظَرَ إِلَى عِبَاده وَهُوَ أَرْحَم بِهِمْ مِنْ أَنْفُسهمْ فَأَرْسَلَ جِبْرِيل فَأَمَرَّ جَنَاحه عَلَى وَجْه الْقَمَر ثَلَاث مَرَّات وَهُوَ يَوْمئِذٍ شَمْس فَطَمَسَ عَنْهُ الضَّوْء وَبَقِيَ فِيهِ النُّور فَذَلِكَ قَوْله " وَجَعَلْنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ " الْآيَة .
وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًاسورة الإسراء الآية رقم 13
قَالَ الزَّجَّاج : ذِكْر الْعُنُق عِبَارَة عَنْ اللُّزُوم كَلُزُومِ الْقِلَادَة لِلْعُنُقِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " طَائِره " عَمَله وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْر وَشَرّ , وَهُوَ مُلَازِمه أَيْنَمَا كَانَ . وَقَالَ مُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : خَيْره وَشَرّه مَعَهُ لَا يُفَارِقهُ حَتَّى يُحَاسَب بِهِ . وَقَالَ مُجَاهِد : عَمَله وَرِزْقه , وَعَنْهُ : مَا مِنْ مَوْلُود يُولَد إِلَّا وَفِي عُنُقه وَرَقَة فِيهَا مَكْتُوب شَقِيّ أَوْ سَعِيد . وَقَالَ الْحَسَن : " أَلْزَمْنَاهُ طَائِره " أَيْ شَقَاوَته وَسَعَادَته وَمَا كُتِبَ لَهُ مِنْ خَيْر وَشَرّ وَمَا طَارَ لَهُ مِنْ التَّقْدِير , أَيْ صَارَ لَهُ عِنْد الْقِسْمَة فِي الْأَزَل . وَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ التَّكْلِيف , أَيْ قَدَّرْنَاهُ إِلْزَام الشَّرْع , وَهُوَ بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَل مَا أُمِرَ بِهِ وَيَنْزَجِر عَمَّا زُجِرَ بِهِ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ . وَقَالَ أَبُو السَّوَّار الْعَدَوِيّ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَة " وَكُلّ إِنْسَان أَلْزَمْنَاهُ طَائِره فِي عُنُقه " قَالَ : هُمَا نَشْرَتَانِ وَطَيَّة ; أَمَّا مَا حَيِيت يَا ابْن آدَم فَصَحِيفَتك الْمَنْشُورَة فَأَمْلِ فِيهَا مَا شِئْت ; فَإِذَا مُتّ طُوِيَتْ حَتَّى إِذَا بُعِثْت نُشِرَتْ .


يَعْنِي كِتَاب طَائِره الَّذِي فِي عُنُقه . وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو رَجَاء وَمُجَاهِد : " طَيْره " بِغَيْرِ أَلِف ; وَمِنْهُ مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر ( اللَّهُمَّ لَا خَيْر إِلَّا خَيْرك وَلَا طَيْر إِلَّا طَيْرك وَلَا رَبّ غَيْرك ) . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَابْن مُحَيْصِن وَأَبُو جَعْفَر وَيَعْقُوب " وَيَخْرُج " بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الرَّاء , عَلَى مَعْنَى وَيَخْرُج لَهُ الطَّائِر كِتَابًا ; ف " كِتَابًا " مَنْصُوب عَلَى الْحَال . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : وَيَخْرُج الطَّائِر فَيَصِير كِتَابًا . وَقَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب " وَيُخْرِج " بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الرَّاء ; وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد ; أَيْ يُخْرِج اللَّه . وَقَرَأَ شَيْبَة وَمُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع , وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي جَعْفَر : " وَيُخْرَج " بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الرَّاء عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول , وَمَعْنَاهُ : وَيُخْرَج لَهُ الطَّائِر كِتَابًا . الْبَاقُونَ " وَنُخْرِج " بِنُونٍ مَضْمُومَة وَكَسْر الرَّاء ; أَيْ وَنَحْنُ نُخْرِج . اِحْتَجَّ أَبُو عَمْرو فِي هَذِهِ الْقِرَاءَة بِقَوْلِهِ " أَلْزَمْنَاهُ " . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَالْحَسَن وَابْن عَامِر " يُلَقَّاهُ " بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح اللَّام وَتَشْدِيد الْقَاف , بِمَعْنَى يُؤْتَاهُ . الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاء خَفِيفَة , أَيْ يَرَاهُ مَنْشُورًا . وَقَالَ " مَنْشُورًا " تَعْجِيلًا لِلْبُشْرَى بِالْحَسَنَةِ وَالتَّوْبِيخ بِالسَّيِّئَةِ .
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًاسورة الإسراء الآية رقم 14
قَالَ الْحَسَن : يَقْرَأ الْإِنْسَان كِتَابه أُمِّيًّا كَانَ أَوْ غَيْر أُمِّيّ .


أَيْ مُحَاسِبًا . وَقَالَ بَعْض الصُّلَحَاء : هَذَا كِتَاب , لِسَانك قَلَمه , وَرِيقك مِدَاده , وَأَعْضَاؤُك قِرْطَاسه . , أَنْتَ كُنْت الْمُمْلِي عَلَى حَفَظَتك , مَا زِيدَ فِيهِ وَلَا نُقِصَ مِنْهُ , وَمَتَى أَنْكَرْت مِنْهُ شَيْئًا يَكُون فِيهِ الشَّاهِد مِنْك عَلَيْك .
مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاًسورة الإسراء الآية رقم 15
أَيْ إِنَّمَا كُلّ أَحَد يُحَاسَب عَنْ نَفْسه لَا عَنْ غَيْره ; فَمَنْ اِهْتَدَى فَثَوَاب اِهْتِدَائِهِ لَهُ , وَمَنْ ضَلَّ فَعِقَاب كُفْره عَلَيْهِ .



تَقَدَّمَ فِي [ الْأَنْعَام ] . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة , قَالَ لِأَهْلِ مَكَّة : اِتَّبِعُونِ وَاكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وَعَلَيَّ أَوْزَاركُمْ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة ; أَيْ إِنَّ الْوَلِيد لَا يَحْمِل آثَامكُمْ وَإِنَّمَا إِثْم كُلّ وَاحِد عَلَيْهِ . يُقَال : وَزَرَ يَزِر وِزْرًا , وَوِزْرَة , أَيْ أَثِمَ . وَالْوِزْر : الثِّقَل الْمُثَقَّل وَالْجَمْع أَوْزَار ; وَمِنْهُ " يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ " [ الْأَنْعَام : 31 ] أَيْ أَثْقَال ذُنُوبهمْ . وَقَدْ وَزَرَ إِذَا حَمَلَ فَهُوَ وَازِر ; وَمِنْهُ وَزِير السُّلْطَان الَّذِي يَحْمِل ثِقَل دَوْلَته . وَالْهَاء فِي قَوْله كِنَايَة عَنْ النَّفْس , أَيْ لَا تُؤْخَذ نَفْس آثِمَة بِإِثْمِ أُخْرَى , حَتَّى أَنَّ الْوَالِدَة تَلْقَى وَلَدهَا يَوْم الْقِيَامَة فَتَقُول : يَا بُنَيّ أَلَمْ يَكُنْ حِجْرِي لَك وِطَاء , أَلَمْ يَكُنْ ثَدْيِي لَك سِقَاء , أَلَمْ يَكُنْ بَطْنِي لَك وِعَاء , فَيَقُول : بَلَى يَا أُمَّهْ فَتَقُول : يَا بُنَيّ فَإِنَّ ذُنُوبِي أَثْقَلَتْنِي فَاحْمِلْ عَنِّي مِنْهَا ذَنْبًا وَاحِدًا فَيَقُول : إِلَيْك عَنِّي يَا أُمَّهْ فَإِنِّي بِذَنْبِي عَنْك الْيَوْم مَشْغُول .

مَسْأَلَة : نَزَعَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا بِهَذِهِ الْآيَة فِي الرَّدّ عَلَى اِبْن عُمَر حَيْثُ قَالَ : إِنَّ الْمَيِّت لَيُعَذَّب بِبُكَاءِ أَهْله . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ تَسْمَعهُ , وَأَنَّهُ مُعَارِض لِلْآيَةِ . وَلَا وَجْه لِإِنْكَارِهَا , فَإِنَّ الرُّوَاة لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِير , كَعُمَر وَابْنه وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة وَقَيْلَة بِنْت مَخْرَمَة , وَهُمْ جَازِمُونَ بِالرِّوَايَةِ ; فَلَا وَجْه لِتَخْطِئَتِهِمْ . وَلَا مُعَارَضَة بَيْن الْآيَة وَالْحَدِيث ; فَإِنَّ الْحَدِيث مَحْمَله عَلَى مَا إِذَا كَانَ النَّوْح مِنْ وَصِيَّة الْمَيِّت وَسُنَّته , كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَفْعَلهُ , حَتَّى قَالَ طَرَفَة : إِذَا مِتّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْله وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْب يَا بِنْت مَعْبَد وَقَالَ : إِلَى الْحَوْل ثُمَّ اِسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اِعْتَذَرَ وَإِلَى هَذَا نَحَا الْبُخَارِيّ . وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم مِنْهُمْ دَاوُد إِلَى اِعْتِقَاد ظَاهِر الْحَدِيث , وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَذَّب بِنَوْحِهِمْ ; لِأَنَّهُ أَهْمَلَ نَهْيهمْ عَنْهُ قَبْل مَوْته وَتَأْدِيبهمْ بِذَلِكَ , فَيُعَذَّب بِتَفْرِيطِهِ فِي ذَلِكَ ; وَبِتَرْكِ مَا أَمَرَهُ اللَّه بِهِ مِنْ قَوْله : " قُوا أَنْفُسكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا " [ التَّحْرِيم : 6 ] لَا بِذَنْبِ غَيْره , وَاَللَّه أَعْلَم .


أَيْ لَمْ نَتْرُك الْخَلْق سُدًى , بَلْ أَرْسَلْنَا الرُّسُل . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَحْكَام لَا تَثْبُت إِلَّا بِالشَّرْعِ , خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَقْل يُقَبِّح وَيُحَسِّن وَيُبِيح وَيَحْظُر . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة الْقَوْل فِيهِ . وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ هَذَا فِي حُكْم الدُّنْيَا ; أَيْ إِنَّ اللَّه لَا يُهْلِك أُمَّة بِعَذَابٍ إِلَّا بَعْد الرِّسَالَة إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَار . وَقَالَتْ فِرْقَة : هَذَا عَامّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خَزَنَتهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِير قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا " [ الْمُلْك : 8 ] . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي يُعْطِيه النَّظَر أَنَّ بَعْثه آدَم عَلَيْهِ السَّلَام بِالتَّوْحِيدِ وَبَثّ الْمُعْتَقِدَات فِي بَنِيهِ مَعَ نَصْب الْأَدِلَّة الدَّالَّة عَلَى الصَّانِع مَعَ سَلَامَة الْفِطَر تُوجِب عَلَى كُلّ أَحَد مِنْ الْعَالَم الْإِيمَان وَاتِّبَاع شَرِيعَة اللَّه , ثُمَّ تَجَدَّدَ ذَلِكَ فِي زَمَن نُوح عَلَيْهِ السَّلَام بَعْد غَرَق الْكُفَّار . وَهَذِهِ الْآيَة أَيْضًا يُعْطِي اِحْتِمَال أَلْفَاظهَا نَحْو هَذَا فِي الَّذِينَ لَمْ تَصِلهُمْ رِسَالَة , وَهُمْ أَهْل الْفَتَرَات الَّذِينَ قَدْ قَدَّرَ وُجُودهمْ بَعْض أَهْل الْعِلْم . وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَبْعَث إِلَيْهِمْ يَوْم الْقِيَامَة وَإِلَى الْمَجَانِين وَالْأَطْفَال فَحَدِيث لَمْ يَصِحّ , وَلَا يَقْتَضِي مَا تُعْطِيه الشَّرِيعَة مِنْ أَنَّ الْآخِرَة لَيْسَتْ دَار تَكْلِيف . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَبْعَث يَوْم الْقِيَامَة رَسُولًا إِلَى أَهْل الْفَتْرَة وَالْأَبْكَم وَالْأَخْرَس وَالْأَصَمّ ; فَيُطِيعهُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُرِيد أَنْ يُطِيعهُ فِي الدُّنْيَا , وَتَلَا الْآيَة ; رَوَاهُ مَعْمَر عَنْ اِبْن طَاوُس عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , ذَكَرَهُ النَّحَّاس .

قُلْت : هَذَا مَوْقُوف , وَسَيَأْتِي مَرْفُوعًا فِي آخِر سُورَة [ طَه ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ; وَلَا يَصِحّ . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ قَوْم فِي أَنَّ أَهْل الْجَزَائِر إِذَا سَمِعُوا بِالْإِسْلَامِ وَآمَنُوا فَلَا تَكْلِيف عَلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى ; وَهَذَا صَحِيح , وَمَنْ لَمْ تَبْلُغهُ الدَّعْوَة فَهُوَ غَيْر مُسْتَحِقّ لِلْعَذَابِ مِنْ جِهَة الْعَقْل , وَاَللَّه أَعْلَم .
وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 16
أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى فِي الْآيَة الَّتِي قَبْل أَنَّهُ لَمْ يُهْلِك الْقُرَى قَبْل اِبْتِعَاث الرُّسُل , لَا لِأَنَّهُ يَقْبُح مِنْهُ ذَلِكَ إِنْ فَعَلَ , وَلَكِنَّهُ وَعْد مِنْهُ , وَلَا خُلْف فِي وَعْده . فَإِذَا أَرَادَ إِهْلَاك قَرْيَة مَعَ تَحْقِيق وَعْده عَلَى مَا قَالَهُ تَعَالَى أَمَرَ مُتْرَفِيهَا بِالْفِسْقِ وَالظُّلْم فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْل بِالتَّدْمِيرِ . يُعْلِمك أَنَّ مَنْ هَلَكَ هَلَكَ بِإِرَادَتِهِ , فَهُوَ الَّذِي يُسَبِّب الْأَسْبَاب وَيَسُوقهَا إِلَى غَايَاتهَا لِيُحِقّ الْقَوْل السَّابِق مِنْ اللَّه تَعَالَى .

" أَمَرْنَا " قَرَأَ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ وَأَبُو رَجَاء وَأَبُو الْعَالِيَة , وَالرَّبِيع وَمُجَاهِد وَالْحَسَن " أَمَّرْنَا " بِالتَّشْدِيدِ , وَهِيَ قِرَاءَة عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; أَيْ سَلَّطْنَا شِرَارهَا فَعَصَوْا فِيهَا , فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ . وَقَالَ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ " أَمَّرْنَا " بِتَشْدِيدِ الْمِيم , جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاء مُسَلَّطِينَ ; وَقَالَهُ اِبْن عَزِيز . وَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ . وَقَرَأَ الْحَسَن أَيْضًا وَقَتَادَة وَأَبُو حَيْوَة الشَّامِيّ وَيَعْقُوب وَخَارَجَة عَنْ نَافِع وَحَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ اِبْن كَثِير وَعَلِيّ وَابْن عَبَّاس بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا " آمَرْنَا " بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيف , أَيْ أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتهَا وَأُمَرَاءَهَا ; قَالَهُ الْكِسَائِيّ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : آمَرْته بِالْمَدِّ وَأَمَّرْته , لُغَتَانِ بِمَعْنَى كَثَّرْته ; وَمِنْهُ الْحَدِيث ( خَيْر الْمَال مُهْرَة مَأْمُورَة أَوْ سِكَّة مَأْبُورَة ) أَيْ كَثِيرَة النِّتَاج وَالنَّسْل . وَكَذَلِكَ قَالَ اِبْن عَزِيز : آمَرْنَا وَأَمَرْنَا بِمَعْنًى وَاحِد ; أَيْ أَكْثَرْنَا . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا وَيَحْيَى بْن يَعْمَر " اِمْرِنَا " بِالْقَصْرِ وَكَسْر الْمِيم عَلَى فَعِلْنَا , وَرُوِيَتْ عَنْ اِبْن عَبَّاس . قَالَ قَتَادَة وَالْحَسَن : الْمَعْنَى أَكْثَرْنَا ; وَحَكَى نَحْوه أَبُو زَيْد وَأَبُو عُبَيْد , وَأَنْكَرَهُ الْكِسَائِيّ وَقَالَ : لَا يُقَال مِنْ الْكَثْرَة إِلَّا آمَرْنَا بِالْمَدِّ ; قَالَ وَأَصْلهَا " أَأَمَرْنَا " فَخَفَّفَ , حَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ . وَفِي الصِّحَاح : وَقَالَ أَبُو الْحَسَن أَمِرَ مَاله ( بِالْكَسْرِ ) أَيْ كَثُرَ . وَأَمِرَ الْقَوْم أَيْ كَثُرُوا ; قَالَ الشَّاعِر : أَمِرُونَ لَا يَرِثُونَ سَهْم الْقُعْدُد وَآمَر اللَّه مَاله : ( بِالْمَدِّ ) : الثَّعْلَبِيّ : وَيُقَال لِلشَّيْءِ الْكَثِير أَمِرٌ , وَالْفِعْل مِنْهُ : أَمِرَ الْقَوْم يَأْمَرُونَ أَمْرًا إِذَا كَثُرُوا . قَالَ اِبْن مَسْعُود : كُنَّا نَقُول فِي الْجَاهِلِيَّة لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا : أَمِرَ أَمْر بَنِي فُلَان ; قَالَ لَبِيد : كُلّ بَنِي حُرَّة مَصِيرهمْ قَلَّ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنْ الْعَدَد إِنْ يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أَمِرُوا يَوْمًا يَصِيرُوا لِلْهُلْكِ وَالنَّكَد قُلْت : وَفِي حَدِيث هِرَقْل الْحَدِيث الصَّحِيح : ( لَقَدْ أَمِرَ أَمْر اِبْن أَبِي كَبْشَة , إِنَّهُ لَيَخَافهُ مَلِك بَنِي الْأَصْفَر ) أَيْ كَثُرَ . وَكُلّه غَيْر مُتَعَدٍّ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ الْكِسَائِيّ , وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ " أَمِرَ " فَهِيَ لُغَة , وَوَجْه تَعْدِيَة " أَمِرَ " أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِعَمَرَ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ الْكَثْرَة أَقْرَب شَيْء إِلَى الْعِمَارَة , فَعُدِّيَ كَمَا عُدِّيَ عَمَرَ . الْبَاقُونَ " أَمَرْنَا " مِنْ الْأَمْر ; أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا وَتَخْوِيفًا وَوَعِيدًا .

وَقِيلَ : " أَمَرْنَا " جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاء ; لِأَنَّ الْعَرَب تَقُول : أَمِير غَيْر مَأْمُور , أَيْ غَيْر مُؤْمَر . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ بَعَثْنَا مُسْتَكْبِرِيهَا . قَالَ هَارُون : وَهِيَ قِرَاءَة أُبَيّ " بَعَثْنَا أَكَابِر مُجْرِمِيهَا فَفَسَقُوا " ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَحَكَى النَّحَّاس : وَقَالَ هَارُون فِي قِرَاءَة أُبَيّ " وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِك قَرْيَة بَعَثْنَا فِيهَا أَكَابِر مُجْرِمِيهَا فَمَكَرُوا فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْل " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " أَمَرْنَا " بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا ; وَمِنْهُ ( خَيْر الْمَال مُهْرَة مَأْمُورَة ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ . وَقَالَ قَوْم : مَأْمُورَة اِتِّبَاع لِمَأْبُورَةٍ ; كَالْغَدَايَا وَالْعَشَايَا . وَكَقَوْلِهِ : ( اِرْجِعْنَ مَأْزُورَات غَيْر مَأْجُورَات ) . وَعَلَى هَذَا لَا يُقَال : أَمَرَهُمْ اللَّه , بِمَعْنَى كَثَّرَهُمْ , بَلْ يُقَال : آمَرهُ وَأَمَرَهُ . وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم قِرَاءَة الْعَامَّة . قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَإِنَّمَا اِخْتَرْنَا " أَمَرْنَا " لِأَنَّ الْمَعَانِي الثَّلَاثَة تَجْتَمِع فِيهَا مِنْ الْأَمْر وَالْإِمَارَة وَالْكَثْرَة . وَالْمُتْرَف : الْمُنَعَّم ; وَخُصُّوا بِالْأَمْرِ لِأَنَّ غَيْرهمْ تَبَع لَهُمْ .


أَيْ فَخَرَجُوا عَنْ الطَّاعَة عَاصِينَ لَنَا .


فَوَجَبَ , عَلَيْهَا الْوَعِيد ; عَنْ اِبْن عَبَّاس .



أَيْ أَسْتَأْصَلْنَاهَا بِالْهَلَاكِ . " تَدْمِيرًا " وَذَكَرَ الْمَصْدَر لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْعَذَاب الْوَاقِع بِهِمْ . وَفِي الصَّحِيح مِنْ حَدِيث زَيْنَب بِنْت جَحْش زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَزِعًا مُحْمَرًّا وَجْهه يَقُول : ( لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَيْل لِلْعَرَبِ مِنْ شَرّ قَدْ اِقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْم مِنْ رَدْم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مِثْل هَذِهِ ) وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَام وَاَلَّتِي تَلِيهَا . قَالَتْ : فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه , أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَث ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب , وَأَنَّ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَتْ وَلَمْ تُغَيَّر كَانَتْ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْجَمِيع ; وَاَللَّه أَعْلَم .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 17
أَيْ كَمْ مِنْ قَوْم كَفَرُوا حَلَّ بِهِمْ الْبَوَار . يُخَوِّف كُفَّار مَكَّة . " كَمْ " فِي مَوْضِع نَصْب ب " أَهْلَكْنَا " وَالْمَعْنَى : أَلَا يَعْتَبِرُونَ بِمَنْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْأُمَم قَبْلهمْ لِتَكْذِيبِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ أَيْ أَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ وَالْقَرْن الْأُمَّة مِنْ النَّاس . وَالْجَمْع الْقُرُون ; قَالَ الشَّاعِر : إِذَا ذَهَبَ الْقَرْن الَّذِي كُنْت فِيهِمْ وَخُلِّفْت فِي قَرْن فَأَنْتَ غَرِيب فَالْقَرْن كُلّه عَالَم فِي عَصْره مَأْخُوذ مِنْ الِاقْتِرَان أَيْ عَالَم مُقْتَرِن بِهِ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض ; وَفِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( خَيْر النَّاس قَرْنِي يَعْنِي أَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ) هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى مِنْ أَهْل قَرْن فَحُذِفَ كَقَوْلِهِ : " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] . فَالْقَرْن عَلَى هَذَا مُدَّة مِنْ الزَّمَان ; قِيلَ : سِتُّونَ عَامًا وَقِيلَ سَبْعُونَ , وَقِيلَ : ثَمَانُونَ ; وَقِيلَ : مِائَة ; وَعَلَيْهِ أَكْثَر أَصْحَاب الْحَدِيث أَنَّ الْقَرْن مِائَة سَنَة ; وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّه بْن بُسْر : ( تَعِيش قَرْنًا ) فَعَاشَ مِائَة سَنَة ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس . وَأَصْل الْقَرْن الشَّيْء الطَّالِع كَقَرْنِ مَا لَهُ قَرْن مِنْ الْحَيَوَان .


" خَبِيرًا " عَلِيمًا بِهِمْ . " بَصِيرًا " يُبْصِر أَعْمَالهمْ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ .
مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًاسورة الإسراء الآية رقم 18
يَعْنِي الدُّنْيَا , وَالْمُرَاد الدَّار الْعَاجِلَة ; فَعَبَّرَ بِالنَّعْتِ عَنْ الْمَنْعُوت .


أَيْ لَمْ نُعْطِهِ مِنْهَا إِلَّا مَا نَشَاء ثُمَّ نُؤَاخِذهُ بِعَمَلِهِ , وَعَاقِبَته دُخُول النَّار .


أَيْ مُطْرَدًا مُبْعَدًا مِنْ رَحْمَة اللَّه . وَهَذِهِ صِفَة الْمُنَافِقِينَ الْفَاسِقِينَ , وَالْمُرَائِينَ الْمُدَاجِينَ , يَلْبَسُونَ الْإِسْلَام وَالطَّاعَة لِيَنَالُوا عَاجِل الدُّنْيَا مِنْ الْغَنَائِم وَغَيْرهَا , فَلَا يُقْبَل ذَلِكَ الْعَمَل مِنْهُمْ فِي الْآخِرَة وَلَا يُعْطَوْنَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُسِمَ لَهُمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ هُود ] أَنَّ هَذِهِ الْآيَة تُقَيِّد الْآيَات الْمُطْلَقَة ; فَتَأَمَّلْهُ .
وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًاسورة الإسراء الآية رقم 19
أَيْ الدَّار الْآخِرَة .


أَيْ عَمِلَ لَهَا عَمَلهَا مِنْ الطَّاعَات .


لِأَنَّ الطَّاعَات لَا تُقْبَل إِلَّا مِنْ مُؤْمِن .


أَيْ مَقْبُولًا غَيْر مَرْدُود . وَقِيلَ : مُضَاعَفًا ; أَيْ تُضَاعَف لَهُمْ الْحَسَنَات إِلَى عَشْر , وَإِلَى سَبْعِينَ وَإِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف , وَإِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة ; كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَقَدْ قِيلَ لَهُ : أَسَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه لَيَجْزِي عَلَى الْحَسَنَة الْوَاحِدَة أَلْف أَلْف حَسَنَة ) ؟ فَقَالَ سَمِعْته يَقُول : ( إِنَّ اللَّه لَيَجْزِي عَلَى الْحَسَنَة الْوَاحِدَة أَلْفَيْ أَلْف حَسَنَة ) .
كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًاسورة الإسراء الآية رقم 20
أَعْلَمَ أَنَّهُ يَرْزُق الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ .


أَيْ مَحْبُوسًا مَمْنُوعًا ; مِنْ حَظَرَ يَحْظُر حَظْرًا وَحِظَارًا .
انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاًسورة الإسراء الآية رقم 21
فِي الرِّزْق وَالْعَمَل ; فَمِنْ مُقِلّ وَمُكْثِر .


أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ ; فَالْكَافِر وَإِنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مَرَّة , وَقُتِّرَ عَلَى الْمُؤْمِن مَرَّة فَالْآخِرَة لَا تُقْسَم إِلَّا مَرَّة وَاحِدَة بِأَعْمَالِهِمْ ; فَمَنْ فَاتَهُ شَيْء مِنْهَا لَمْ يَسْتَدْرِكهُ فِيهَا .
لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاًسورة الإسراء الآية رقم 22
الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته . وَقِيلَ : الْخِطَاب لِلْإِنْسَانِ .


أَيْ تَبْقَى .


لَا نَاصِر لَك وَلَا وَلِيًّا .
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًاسورة الإسراء الآية رقم 23
" قَضَى " أَيْ أَمَرَ وَأَلْزَمَ وَأَوْجَبَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَقَتَادَة : وَلَيْسَ هَذَا قَضَاء حُكْم بَلْ هُوَ قَضَاء أَمْر . وَفِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود " وَوَصَّى " وَهِيَ قِرَاءَة أَصْحَابه وَقِرَاءَة اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَعَلِيّ وَغَيْرهمَا , وَكَذَلِكَ عِنْد أُبَيّ بْن كَعْب . قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّمَا هُوَ " وَوَصَّى رَبّك " فَالْتَصَقَتْ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ فَقُرِئَتْ " وَقَضَى رَبّك " إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى الْقَضَاء مَا عَصَى اللَّه أَحَد . وَقَالَ الضَّحَّاك : تَصَحَّفَتْ عَلَى قَوْم " وَصَى بِقَضَى " حِين اِخْتَلَطَتْ الْوَاو بِالصَّادِ وَقْت كَتْب الْمُصْحَف . وَذَكَرَ أَبُو حَاتِم عَنْ اِبْن عَبَّاس مِثْل قَوْل الضَّحَّاك . وَقَالَ عَنْ مَيْمُون بْن مِهْرَان أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ عَلَى قَوْل اِبْن عَبَّاس لَنُورًا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك " [ الشُّورَى : 13 ] ثُمَّ أَبَى أَبُو حَاتِم أَنْ يَكُون اِبْن عَبَّاس قَالَ ذَلِكَ . وَقَالَ : لَوْ قُلْنَا هَذَا لَطَعَنَ الزَّنَادِقَة فِي مُصْحَفنَا , ثُمَّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرهمْ : الْقَضَاء يُسْتَعْمَل فِي اللُّغَة عَلَى وُجُوه : فَالْقَضَاء بِمَعْنَى الْأَمْر ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَقَضَى رَبّك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ " مَعْنَاهُ أَمَرَ . وَالْقَضَاء بِمَعْنَى الْخَلْق ; كَقَوْلِهِ : " فَقَضَاهُنَّ سَبْع سَمَوَات فِي يَوْمَيْنِ " [ فُصِّلَتْ : 12 ] يَعْنِي خَلَقَهُنَّ . وَالْقَضَاء بِمَعْنَى الْحُكْم ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ " يَعْنِي اُحْكُمْ مَا أَنْتَ تَحْكُم . وَالْقَضَاء بِمَعْنَى الْفَرَاغ ; كَقَوْلِهِ : " قُضِيَ الْأَمْر الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ " [ يُوسُف : 41 ] أَيْ فُرِغَ مِنْهُ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى " فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِككُمْ " [ الْبَقَرَة : 200 ] . وَقَوْله تَعَالَى : " فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاة " . وَالْقَضَاء بِمَعْنَى الْإِرَادَة ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون " [ آل عِمْرَان : 47 ] . وَالْقَضَاء بِمَعْنَى الْعَهْد ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا كُنْت بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْر " [ الْقَصَص : 44 ] . فَإِذَا كَانَ الْقَضَاء يَحْتَمِل هَذِهِ الْمَعَانِي فَلَا يَجُوز إِطْلَاق الْقَوْل بِأَنَّ الْمَعَاصِي بِقَضَاءِ اللَّه ; لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَمْر فَلَا خِلَاف أَنَّهُ لَا يَجُوز ذَلِكَ , لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَأْمُر بِهَا , فَإِنَّهُ لَا يَأْمُر بِالْفَحْشَاءِ . وَقَالَ زَكَرِيَّا بْن سَلَّام : جَاءَ رَجُل إِلَى الْحَسَن فَقَالَ إِنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا . فَقَالَ : إِنَّك قَدْ عَصَيْت رَبّك وَبَانَتْ مِنْك . فَقَالَ الرَّجُل : قَضَى اللَّه ذَلِكَ عَلَيَّ فَقَالَ الْحَسَن وَكَانَ فَصِيحًا : مَا قَضَى اللَّه ذَلِكَ أَيْ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ , وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَة : " وَقَضَى رَبّك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ " .

أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه بِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيده , وَجَعَلَ بِرّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِذَلِكَ , كَمَا قَرَنَ شُكْرهمَا بِشُكْرِهِ فَقَالَ : " وَقَضَى رَبّك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " . وَقَالَ : " أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك إِلَيَّ الْمَصِير " [ لُقْمَان : 14 ] . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : سَأَلْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيّ الْعَمَل أَحَبّ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ : ( الصَّلَاة عَلَى وَقْتهَا ) قَالَ : ثُمَّ أَيّ ؟ قَالَ : ( ثُمَّ بِرّ الْوَالِدَيْنِ ) قَالَ ثُمَّ أَيّ ؟ قَالَ : ( الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه ) فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بِرّ الْوَالِدَيْنِ أَفْضَل الْأَعْمَال بَعْد الصَّلَاة الَّتِي هِيَ أَعْظَم دَعَائِم الْإِسْلَام . وَرَتَّبَ ذَلِكَ ( بِثُمَّ ) الَّتِي تُعْطِي التَّرْتِيب وَالْمُهْلَة .

مِنْ الْبِرّ بِهِمَا وَالْإِحْسَان إِلَيْهِمَا أَلَّا يَتَعَرَّض لِسَبِّهِمَا وَلَا يَعُقّهُمَا ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِر بِلَا خِلَاف , وَبِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّة الثَّابِتَة ; فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ مِنْ الْكَبَائِر شَتْم الرَّجُل وَالِدَيْهِ ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , وَهَلْ يَشْتُم الرَّجُل وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ ( نَعَمْ . يَسُبّ الرَّجُل أَبَا الرَّجُل فَيَسُبّ أَبَاهُ وَيَسُبّ أُمّه فَيَسُبّ أُمّه ) .

عُقُوق الْوَالِدَيْنِ مُخَالَفَتهمَا فِي أَغْرَاضهمَا الْجَائِزَة لَهُمَا ; كَمَا أَنَّ بِرّهمَا مُوَافَقَتهمَا عَلَى أَغْرَاضهمَا . وَعَلَى هَذَا إِذَا أَمَرَا أَوْ أَحَدهمَا وَلَدهمَا بِأَمْرٍ وَجَبَتْ طَاعَتهمَا فِيهِ , إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْأَمْر مَعْصِيَة , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَأْمُور بِهِ مِنْ قَبِيل الْمُبَاح فِي أَصْله , وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْ قَبِيل الْمَنْدُوب . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْض النَّاس إِلَى أَنَّ أَمْرهمَا بِالْمُبَاحِ يُصَيِّرهُ فِي حَقّ الْوَلَد مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَأَمْرهمَا بِالْمَنْدُوبِ يَزِيدهُ تَأْكِيدًا فِي نَدْبِيَّته .

رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كَانَتْ تَحْتِي اِمْرَأَة أُحِبّهَا , وَكَانَ أَبِي يَكْرَههَا فَأَمَرَنِي أَنْ أُطَلِّقهَا فَأَبَيْت , فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( يَا عَبْد اللَّه بْن عُمَر طَلِّقْ اِمْرَأَتك ) . قَالَ هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح .

رَوَى الصَّحِيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ أَحَقّ النَّاس بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ : ( أُمّك ) قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ( ثُمَّ أُمّك ) قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ( ثُمَّ أُمّك ) قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ( ثُمَّ أَبُوك ) . فَهَذَا الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّة الْأُمّ وَالشَّفَقَة عَلَيْهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُون ثَلَاثَة أَمْثَال مَحَبَّة الْأَب ; لِذِكْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمّ ثَلَاث مَرَّات وَذِكْر الْأَب فِي الرَّابِعَة فَقَطْ . وَإِذَا تَوَصَّلَ هَذَا الْمَعْنَى شَهِدَ لَهُ الْعِيَان . وَذَلِكَ أَنَّ صُعُوبَة الْحَمْل وَصُعُوبَة الْوَضْع وَصُعُوبَة الرَّضَاع وَالتَّرْبِيَة تَنْفَرِد بِهَا الْأُمّ دُون الْأَب ; فَهَذِهِ ثَلَاث مَنَازِل يَخْلُو مِنْهَا الْأَب . وَرُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ : إِنَّ أَبِي فِي بَلَد السُّودَان , وَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُم عَلَيْهِ , وَأُمِّي تَمْنَعنِي مِنْ ذَلِكَ ; فَقَالَ : أَطِعْ أَبَاك , وَلَا تَعْصِ أُمّك . فَدَلَّ قَوْل مَالِك هَذَا أَنَّ بِرّهمَا مُتَسَاوٍ عِنْده . وَقَدْ سُئِلَ اللَّيْث عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة فَأَمَرَهُ بِطَاعَةِ الْأُمّ ; وَزَعَمَ أَنَّ لَهَا ثُلُثَيْ الْبِرّ . وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ لَهَا ثَلَاثَة أَرْبَاع الْبِرّ ; وَهُوَ الْحُجَّة عَلَى مَنْ خَالَفَ . وَقَدْ زَعَمَ الْمُحَاسِبِيّ فِي ( كِتَاب الرِّعَايَة ) لَهُ أَنَّهُ لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ لِلْأُمِّ ثَلَاثَة أَرْبَاع الْبِرّ وَلِلْأَبِ الرُّبْع ; عَلَى مُقْتَضَى حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَاَللَّه أَعْلَم .

لَا يَخْتَصّ بِرّ الْوَالِدَيْنِ بِأَنْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ , بَلْ إِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ يَبَرّهُمَا وَيُحْسِن إِلَيْهِمَا إِذَا كَانَ لَهُمَا عَهْد ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ " [ الْمُمْتَحَنَة : 8 ] . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ أَسْمَاء قَالَتْ : قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَة فِي عَهْد قُرَيْش وَمُدَّتهمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِيهَا , فَاسْتَفْتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَة أَفَأَصِلهَا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ صِلِي أُمّك ) . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَسْمَاء قَالَتْ : أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَة فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) . قَالَ اِبْن عُيَيْنَة : فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا : " لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين " [ الْمُمْتَحَنَة : 8 ] الْأَوَّل مُعَلَّق وَالثَّانِي مُسْنَد .

مِنْ الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا وَالْبِرّ بِهِمَا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّن الْجِهَاد أَلَّا يُجَاهِد إِلَّا بِإِذْنِهِمَا . رَوَى الصَّحِيح عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنهُ فِي الْجِهَاد فَقَالَ : ( أَحَيّ وَالِدَاك ) ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ : ( فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ ) . لَفْظ مُسْلِم . فِي غَيْر الصَّحِيح قَالَ : نَعَمْ ; وَتَرَكْتهمَا يَبْكِيَانِ . قَالَ : ( اِذْهَبْ فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتهمَا ) . وَفِي خَبَر آخَر أَنَّهُ قَالَ : ( نَوْمك مَعَ أَبَوَيْك عَلَى فِرَاشهمَا يُضَاحِكَانِك وَيُلَاعِبَانِك أَفْضَل لَك مِنْ الْجِهَاد مَعِي ) . ذَكَرَهُ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد . وَلَفْظ الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب بِرّ الْوَالِدَيْنِ : أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْم أَخْبَرَنَا سُفْيَان عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعهُ عَلَى الْهِجْرَة , وَتَرَكَ أَبَوَيْهِ يَبْكِيَانِ فَقَالَ : ( اِرْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتهمَا ) . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فِي هَذَا الْحَدِيث النَّهْي عَنْ الْخُرُوج بِغَيْرِ إِذْن الْأَبَوَيْنِ مَا لَمْ يَقَع النَّفِير ; فَإِذَا وَقَعَ وَجَبَ الْخُرُوج عَلَى الْجَمِيع . وَذَلِكَ بَيِّن فِي حَدِيث أَبِي قَتَادَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْش الْأُمَرَاء . .. ; فَذَكَرَ قِصَّة زَيْد بْن حَارِثَة وَجَعْفَر بْن أَبِي طَالِب وَابْن رَوَاحَة وَأَنَّ مُنَادِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَى بَعْد ذَلِكَ : أَنَّ الصَّلَاة جَامِعَة ; فَاجْتَمَعَ النَّاس فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : ( أَيّهَا النَّاس , اُخْرُجُوا فَأَمِدُّوا إِخْوَانكُمْ وَلَا يَتَخَلَّفَنَّ أَحَد ) فَخَرَجَ النَّاس مُشَاة وَرُكْبَانًا فِي حَرّ شَدِيد . فَدَلَّ قَوْله : ( اُخْرُجُوا فَأَمِدُّوا إِخْوَانكُمْ ) أَنَّ الْعُذْر فِي التَّخَلُّف عَنْ الْجِهَاد إِنَّمَا هُوَ مَا لَمْ يَقَع النَّفِير ; مَعَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ) .

قُلْت : وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَفْرُوض أَوْ الْمَنْدُوبَات مَتَى اِجْتَمَعَتْ قُدِّمَ الْأَهَمّ مِنْهَا . وَقَدْ اِسْتَوْفَى هَذَا الْمَعْنَى الْمُحَاسِبِيّ فِي كِتَاب الرِّعَايَة .

وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ هَلْ يَخْرُج بِإِذْنِهِمَا إِذَا كَانَ الْجِهَاد مِنْ فَرَوْض الْكِفَايَة ; فَكَانَ الثَّوْرِيّ يَقُول : لَا يَغْزُو إِلَّا بِإِذْنِهِمَا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَهُ أَنْ يَغْزُو بِغَيْرِ إِذْنهمَا . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَالْأَجْدَاد آبَاء , وَالْجَدَّات أُمَّهَات فَلَا يَغْزُو الْمَرْء إِلَّا بِإِذْنِهِمْ , وَلَا أَعْلَم دَلَالَة تُوجِب ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُخُوَّة وَسَائِر الْقَرَابَات . وَكَانَ طَاوُس يَرَى السَّعْي عَلَى الْأَخَوَات أَفْضَل مِنْ الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .

مِنْ تَمَام بِرّهمَا صِلَة أَهْل وُدّهمَا ; فَفِي الصَّحِيح عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ مِنْ أَبَرّ الْبِرّ صِلَة الرَّجُل أَهْل وُدّ أَبِيهِ بَعْد أَنْ يُوَلِّي ) . وَرَوَى أَبُو أُسَيْد وَكَانَ بَدْرِيًّا قَالَ : كُنْت مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فَجَاءَهُ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرّ وَالِدِيَّ مِنْ بَعْد مَوْتهمَا شَيْء أَبِرّهمَا بِهِ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ . الصَّلَاة عَلَيْهِمَا وَالِاسْتِغْفَار لَهُمَا وَإِنْفَاذ عَهْدهمَا بَعْدهمَا وَإِكْرَام صَدِيقهمَا وَصِلَة الرَّحِم الَّتِي لَا رَحِم لَك إِلَّا مِنْ قَبْلهمَا فَهَذَا الَّذِي بَقِيَ عَلَيْك ) . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهْدِي لِصَدَائِق خَدِيجَة بِرًّا بِهَا وَوَفَاء لَهَا وَهِيَ زَوْجَته , فَمَا ظَنّك بِالْوَالِدَيْنِ .



خَصَّ حَالَة الْكِبَر لِأَنَّهَا الْحَالَة الَّتِي يَحْتَاجَانِ فِيهَا إِلَى بِرّه لِتَغَيُّرِ الْحَال عَلَيْهِمَا بِالضَّعْفِ وَالْكِبَر ; فَأَلْزَمَ فِي هَذِهِ الْحَالَة مِنْ مُرَاعَاة أَحْوَالهمَا أَكْثَر مِمَّا أَلْزَمَهُ مِنْ قَبْل , لِأَنَّهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَة قَدْ صَارَا كَلًّا عَلَيْهِ , فَيَحْتَاجَانِ أَنْ يَلِي مِنْهُمَا فِي الْكِبَر مَا كَانَ يَحْتَاج فِي صِغَره أَنْ يَلِيَا مِنْهُ ; فَلِذَلِكَ خَصَّ هَذِهِ الْحَالَة بِالذِّكْرِ . وَأَيْضًا فَطُول الْمُكْث لِلْمَرْءِ يُوجِب الِاسْتِثْقَال لِلْمَرْءِ عَادَة وَيَحْصُل الْمَلَل وَيَكْثُر الضَّجَر فَيَظْهَر غَضَبه عَلَى أَبَوَيْهِ وَتَنْتَفِخ لَهُمَا أَوْدَاجه , وَيَسْتَطِيل عَلَيْهِمَا بِدَالَّةِ الْبُنُوَّة وَقِلَّة الدِّيَانَة , وَأَقَلّ الْمَكْرُوه مَا يُظَهِّرهُ بِتَنَفُّسِهِ الْمُتَرَدِّد مِنْ الضَّجَر . وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يُقَابِلهُمَا بِالْقَوْلِ الْمَوْصُوف بِالْكَرَامَةِ , وَهُوَ السَّالِم عَنْ كُلّ عَيْب فَقَالَ : " فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ وَلَا تَنْهَرهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا " . رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رَغِمَ أَنْفه رَغِمَ أَنْفه رَغِمَ أَنْفه ) قِيلَ : مَنْ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْد الْكِبَر أَحَدهمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُل الْجَنَّة ) . وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب الْوَالِدَيْنِ : حَدَّثَنَا مُسَدَّد حَدَّثَنَا بِشْر بْن الْمُفَضَّل حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن إِسْحَاق عَنْ أَبِي سَعِيد الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( رَغِمَ أَنْف رَجُل ذُكِرْت عِنْده فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ . رَغِمَ أَنْف رَجُل أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْد الْكِبَر أَوْ أَحَدهمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّة . وَرَغِمَ أَنْف رَجُل دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَان ثُمَّ اِنْسَلَخَ قَبْل أَنْ يُغْفَر لَهُ ) . حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي أُوَيْس حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَان بْن بِلَال عَنْ مُحَمَّد بِي هِلَال عَنْ سَعْد بْن إِسْحَاق بْن كَعْب بْن عُجْرَة السَّالِمِيّ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : إِنَّ كَعْب بْن عُجْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَحْضِرُوا الْمِنْبَر ) فَلَمَّا خَرَجَ رَقِيَ إِلَى الْمِنْبَر , فَرَقِيَ فِي أَوَّل دَرَجَة مِنْهُ قَالَ آمِينَ ثُمَّ رَقِيَ فِي الثَّانِيَة فَقَالَ آمِينَ ثُمَّ لَمَّا رَقِيَ فِي الثَّالِثَة قَالَ آمِينَ , فَلَمَّا فَرَغَ وَنَزَلَ مِنْ الْمِنْبَر قُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه , لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْك الْيَوْم شَيْئًا مَا كُنَّا نَسْمَعهُ مِنْك ؟ قَالَ : ( وَسَمِعْتُمُوهُ ) ؟ قُلْنَا نَعَمْ . قَالَ : ( إِنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام اِعْتَرَضَ قَالَ : بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَان فَلَمْ يُغْفَر لَهُ فَقُلْت آمِينَ فَلَمَّا رَقِيت فِي الثَّانِيَة قَالَ بَعُدَ مَنْ ذُكِرْت عِنْده فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك فَقُلْت آمِينَ فَلَمَّا رَقِيت فِي الثَّالِثَة قَالَ بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ عِنْده أَبَوَاهُ الْكِبَر أَوْ أَحَدهمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّة قُلْت آمِينَ ) . حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن وَرْدَان سَمِعْت أَنَسًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُول : اِرْتَقَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَر دَرَجَة فَقَالَ آمِينَ ثُمَّ اِرْتَقَى دَرَجَة فَقَالَ آمِينَ ثُمَّ اِرْتَقَى الدَّرَجَة الثَّالِثَة فَقَالَ آمِينَ , ثُمَّ اِسْتَوَى وَجَلَسَ فَقَالَ أَصْحَابه : يَا رَسُول اللَّه , عَلَامَ أَمَّنْت ؟ قَالَ : ( أَتَانِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ رَغِمَ أَنْف مَنْ ذُكِرْت عِنْده فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك فَقُلْت آمِينَ وَرَغِمَ أَنْف مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدهمَا فَلَمْ يَدْخُل الْجَنَّة فَقُلْت آمِينَ ) الْحَدِيث . فَالسَّعِيد الَّذِي يُبَادِر اِغْتِنَام فُرْصَة بِرّهمَا لِئَلَّا تَفُوتهُ بِمَوْتِهِمَا فَيَنْدَم عَلَى ذَلِكَ . وَالشَّقِيّ مَنْ عَقَّهُمَا , لَا سِيَّمَا مَنْ بَلَغَهُ الْأَمْر بِبِرِّهِمَا .



أَيْ لَا تَقُلْ لَهُمَا مَا يَكُون فِيهِ أَدْنَى تَبَرُّم . وَعَنْ أَبِي رَجَاء الْعُطَارِدِيّ قَالَ : الْأُفّ الْكَلَام الْقَذِع الرَّدِيء الْخَفِيّ . وَقَالَ مُجَاهِد : مَعْنَاهُ إِذَا رَأَيْت مِنْهُمَا فِي حَال الشَّيْخ الْغَائِط وَالْبَوْل الَّذِي رَأَيَاهُ مِنْك فِي الصِّغَر فَلَا تَقْذُرهُمَا وَتَقُول أُفّ . وَالْآيَة أَعَمّ مِنْ هَذَا . وَالْأُفّ وَالتُّفّ وَسَخ الْأَظْفَار . وَيُقَال لِكُلِّ مَا يُضْجِر وَيُسْتَثْقَل : أُفّ لَهُ . قَالَ الْأَزْهَرِيّ : وَالتُّفّ أَيْضًا الشَّيْء الْحَقِير . وَقُرِئَ " أُفٍّ " مُنَوَّن مَخْفُوض ; كَمَا تُخْفَض الْأَصْوَات وَتُنَوَّن , تَقُول : صَهٍ وَمَه . وَفِيهِ عَشْر لُغَات : أَفَّ , وَأَفُّ , وَأَفِّ , وَأُفًّا وَأُفٍّ , وَأُفٌّ وَأُفَّهْ , وَإِفْ لَك ( بِكَسْرِ الْهَمْزَة ) , وَأُفْ ( بِضَمِّ الْهَمْزَة وَتَسْكِين الْفَاء ) , وَأُفًا ( مُخَفَّفَة الْفَاء ) . وَفِي الْحَدِيث : ( فَأَلْقَى طَرْف ثَوْبه عَلَى أَنْفه ثُمَّ قَالَ أُفّ أُفّ ) . قَالَ أَبُو بَكْر : مَعْنَاهُ اِسْتِقْذَار لِمَا شَمَّ . وَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَى أُفّ الِاحْتِقَار وَالِاسْتِقْلَال ; أُخِذَ مِنْ الْأَفَف وَهُوَ الْقَلِيل . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : أَصْله نَفْخك الشَّيْء يَسْقُط عَلَيْك مِنْ رَمَاد وَتُرَاب وَغَيْر ذَلِكَ , وَلِلْمَكَانِ تُرِيد إِمَاطَة شَيْء لِتَقْعُدَ فِيهِ ; فَقِيلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَة لِكُلِّ مُسْتَثْقَل . وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء : الْأُفّ وَسَخ بَيْن الْأَظْفَار , وَالتُّفّ قُلَامَتهَا . وَقَالَ الزَّجَّاج : مَعْنَى أُفّ النَّتْن . وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : الْأُفّ وَسَخ الْأُذُن , وَالتُّفّ وَسَخ الْأَظْفَار ; فَكَثُرَ اِسْتِعْمَاله حَتَّى ذُكِرَ فِي كُلّ مَا يُتَأَذَّى بِهِ . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ عَلِمَ اللَّه مِنْ الْعُقُوق شَيْئًا أَرْدَأ مِنْ " أُفّ " لَذَكَرَهُ فَلْيَعْمَلْ الْبَارّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَل فَلَنْ يَدْخُل النَّار . وَلْيَعْمَلْ الْعَاقّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَل فَلَنْ يَدْخُل الْجَنَّة ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا صَارَتْ قَوْلَة " أُفّ " لِلْأَبَوَيْنِ أَرْدَأ شَيْء لِأَنَّهُ رَفَضَهُمَا رَفْض كُفْر النِّعْمَة , وَجَحَدَ التَّرْبِيَة وَرَدَّ الْوَصِيَّة الَّتِي أَوْصَاهُ فِي التَّنْزِيل . و " أُفّ " كَلِمَة مَقُولَة لِكُلِّ شَيْء مَرْفُوض ; وَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيم لِقَوْمِهِ : " أُفّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه " [ الْأَنْبِيَاء : 67 ] أَيْ رَفْض لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْأَصْنَام مَعَكُمْ .



النَّهْر : الزَّجْر وَالْغِلْظَة .




أَيْ لَيِّنًا لَطِيفًا , مِثْل : يَا أَبَتَاهُ وَيَا أُمَّاهُ , مِنْ غَيْر أَنْ يُسَمِّيهِمَا وَيُكَنِّيهِمَا ; قَالَ عَطَاء . وَقَالَ اِبْن الْبَدَّاح التُّجِيبِيّ : قُلْت لِسَعِيدِ بْن الْمُسَيِّب كُلّ مَا فِي الْقُرْآن مِنْ بِرّ الْوَالِدَيْنِ قَدْ عَرَفْته إِلَّا قَوْله : " وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا " مَا هَذَا الْقَوْل الْكَرِيم ؟ قَالَ اِبْن الْمُسَيِّب : قَوْل الْعَبْد الْمُذْنِب لِلسَّيِّدِ الْفَظّ الْغَلِيظ .
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 24
هَذِهِ اِسْتِعَارَة فِي الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة بِهِمَا وَالتَّذَلُّل لَهُمَا تَذَلُّل الرَّعِيَّة لِلْأَمِيرِ وَالْعَبِيد لِلسَّادَةِ ; كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب . وَضَرَبَ خَفْض الْجَنَاح وَنَصْبه مَثَلًا لِجَنَاحِ الطَّائِر حِين يَنْتَصِب بِجَنَاحِهِ لِوَلَدِهِ . وَالذُّلّ : هُوَ اللِّين . وَقِرَاءَة الْجُمْهُور بِضَمِّ الذَّال , مَنْ ذَلَّ يَذِلّ ذُلًّا وَذِلَّة وَمَذَلَّة فَهُوَ ذَالّ وَذَلِيل . وَقَرَأَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَابْن عَبَّاس وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر " الذِّلّ " بِكَسْرِ الذَّال , وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِم ; مِنْ قَوْلهمْ : دَابَّة ذَلُول بَيِّنَة الذِّلّ . وَالذِّلّ فِي الدَّوَابّ الْمُنْقَاد السَّهْل دُون الصَّعْب . فَيَنْبَغِي بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَة أَنْ يَجْعَل الْإِنْسَان نَفْسه مَعَ أَبَوَيْهِ فِي خَيْر ذِلَّة , فِي أَقْوَاله وَسَكَنَاته وَنَظَره , وَلَا يُحِدّ إِلَيْهِمَا بَصَره فَإِنَّ تِلْكَ هِيَ نَظْرَة الْغَاضِب .

الْخِطَاب فِي هَذِهِ الْآيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد بِهِ أُمَّته ; إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِكَ الْوَقْت أَبَوَانِ . وَلَمْ يُذْكَر الذُّلّ فِي قَوْله تَعَالَى : " وَاخْفِضْ جَنَاحك لِمَنْ اِتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " [ الشُّعَرَاء : 215 ] وَذَكَرَهُ هُنَا بِحَسَبِ عِظَم الْحَقّ وَتَأْكِيده . و " مِنْ " فِي قَوْله : " مِنْ الرَّحْمَة " لِبَيَانِ الْجِنْس , أَيْ إِنَّ هَذَا الْخَفْض يَكُون مِنْ الرَّحْمَة الْمُسْتَكِنَّة فِي النَّفْس , لَا بِأَنْ يَكُون ذَلِكَ اِسْتِعْمَالًا . وَيَصِحّ أَنْ يَكُون لِانْتِهَاءِ الْغَايَة ,



أَمَرَ تَعَالَى عِبَاده بِالتَّرَحُّمِ عَلَى آبَائِهِمْ وَالدُّعَاء لَهُمْ , وَأَنْ تَرْحَمهُمَا كَمَا رَحِمَاك وَتَرْفُق بِهِمَا كَمَا رَفَقَا بِك ; إِذْ وَلِيَاك صَغِيرًا جَاهِلًا مُحْتَاجًا فَآثَرَاك عَلَى أَنْفُسهمَا , وَأَسْهَرَا لَيْلهمَا , وَجَاعَا وَأَشْبَعَاك , وَتَعَرَّيَا وَكَسَوَاك , فَلَا تَجْزِيهِمَا إِلَّا أَنْ يَبْلُغَا مِنْ الْكِبَر الْحَدّ الَّذِي كُنْت فِيهِ مِنْ الصِّغَر , فَتَلِي مِنْهُمَا مَا وَلِيَا مِنْك , وَيَكُون لَهُمَا حِينَئِذٍ فَضْل التَّقَدُّم . قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيه فَيُعْتِقهُ ) . وَسَيَأْتِي فِي سُورَة [ مَرْيَم ] الْكَلَام عَلَى هَذَا الْحَدِيث . وَالْآيَة " وَقُلْ رَبّ اِرْحَمْهُمَا " نَزَلَتْ فِي سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص , فَإِنَّهُ أَسْلَمَ , فَأَلْقَتْ أُمّه نَفْسهَا فِي الرَّمْضَاء مُتَجَرِّدَة , فَذُكِرَ ذَلِكَ لِسَعْدٍ فَقَالَ : لِتَمُتْ , فَنَزَلَتْ الْآيَة


خَصَّ التَّرْبِيَة بِالذِّكْرِ لِيَتَذَكَّر الْعَبْد شَفَقَة الْأَبَوَيْنِ وَتَعَبهُمَا فِي التَّرْبِيَة , فَيَزِيدهُ ذَلِكَ إِشْفَاقًا لَهُمَا وَحَنَانًا عَلَيْهِمَا , وَهَذَا كُلّه فِي الْأَبَوَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ . وَقَدْ نَهَى الْقُرْآن عَنْ الِاسْتِغْفَار لِلْمُشْرِكِينَ الْأَمْوَات وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى , كَمَا تَقَدَّمَ . وَذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة أَنَّ هَذَا كُلّه مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ : " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ - إِلَى قَوْله - أَصْحَاب الْجَحِيم " [ التَّوْبَة : 113 ] فَإِذَا كَانَ وَالِدَا الْمُسْلِم ذِمِّيَّيْنِ اِسْتَعْمَلَ مَعَهُمَا مَا أَمَرَهُ اللَّه بِهِ هَاهُنَا ; إِلَّا التَّرَحُّم لَهُمَا بَعْد مَوْتهمَا عَلَى الْكُفْر ; لِأَنَّ هَذَا وَحْده نُسِخَ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَة . وَقِيلَ : لَيْسَ هَذَا مَوْضِع نَسْخ , فَهُوَ دُعَاء بِالرَّحْمَةِ الدُّنْيَوِيَّة لِلْأَبَوَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ مَا دَامَا حَيَّيْنِ , كَمَا تَقَدَّمَ . أَوْ يَكُون عُمُوم هَذِهِ الْآيَة خُصَّ بِتِلْكَ , لَا رَحْمَة الْآخِرَة , لَا سِيَّمَا وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْله : " وَقُلْ رَبّ اِرْحَمْهُمَا " نَزَلَتْ فِي سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص , فَإِنَّهُ أَسْلَمَ , فَأَلْقَتْ أُمّه نَفْسهَا فِي الرَّمْضَاء مُتَجَرِّدَة , فَذُكِرَ ذَلِكَ لِسَعْدٍ فَقَالَ : لِتَمُتْ , فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقِيلَ : الْآيَة خَاصَّة فِي الدُّعَاء لِلْأَبَوَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ . وَالصَّوَاب أَنَّ ذَلِكَ عُمُوم كَمَا ذَكَرْنَا , وَقَالَ اِبْن عَبَّاس قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَمْسَى مُرْضِيًا لِوَالِدَيْهِ وَأَصْبَحَ أَمْسَى وَأَصْبَحَ وَلَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ مِنْ الْجَنَّة وَإِنْ وَاحِدًا فَوَاحِدًا . وَمَنْ أَمْسَى وَأَصْبَحَ مُسْخِطًا لِوَالِدَيْهِ أَمْسَى وَأَصْبَحَ وَلَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إِلَى النَّار وَإِنْ وَاحِدًا فَوَاحِدًا ) فَقَالَ رَجُل : يَا رَسُول اللَّه , وَإِنْ ظَلَمَاهُ ؟ قَالَ : ( وَإِنْ ظَلَمَاهُ وَإِنْ ظَلَمَاهُ وَإِنْ ظَلَمَاهُ ) . وَقَدْ رُوِّينَا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِل عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ أَبِي أَخَذَ مَالِي . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ : ( فَأْتِنِي بِأَبِيك ) فَنَزَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِئك السَّلَام وَيَقُول لَك إِذَا جَاءَك الشَّيْخ فَاسْأَلْهُ عَنْ شَيْء قَالَهُ فِي نَفْسه مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ ) فَلَمَّا جَاءَ الشَّيْخ قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا بَال اِبْنك يَشْكُوك أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذ مَاله ) ؟ فَقَالَ : سَلْهُ يَا رَسُول اللَّه , هَلْ أُنْفِقهُ إِلَّا عَلَى إِحْدَى عَمَّاته أَوْ خَالَاته أَوْ عَلَى نَفْسِي ! فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِيه , دَعْنَا مِنْ هَذَا أَخْبِرْنِي عَنْ شَيْء قُلْته فِي نَفْسك مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاك ) ؟ فَقَالَ الشَّيْخ : وَاَللَّه يَا رَسُول اللَّه , مَا زَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَزِيدنَا بِك يَقِينًا , لَقَدْ قُلْت فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ . قَالَ : ( قُلْ وَأَنَا أَسْمَع ) قَالَ قُلْت : غَذَوْتُك مَوْلُودًا وَمُنْتُك يَافِعًا تَعِلّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْك وَتَنْهَل إِذَا لَيْلَة ضَافَتْك بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ لِسُقْمِك إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَل كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوق دُونك بِاَلَّذِي طُرِقْت بِهِ دُونِي فَعَيْنِي تَهْمُل تَخَاف الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْك وَإِنَّهَا لَتَعْلَم أَنَّ الْمَوْت وَقْت مُؤَجَّل فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنّ وَالْغَايَة الَّتِي إِلَيْهَا مَدَى مَا كُنْت فِيك أُؤَمِّل جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَة وَفَظَاظَة كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِم الْمُتَفَضِّل فَلَيْتَك إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقّ أُبُوَّتِي فَعَلْتَ كَمَا الْجَار الْمُصَاقِب يَفْعَل فَأَوْلَيْتنِي حَقّ الْجِوَار وَلَمْ تَكُنْ عَلَيَّ بِمَالٍ دُون مَالِك تَبْخَل قَالَ : فَحِينَئِذٍ أَخَذَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَلَابِيب اِبْنه وَقَالَ : ( أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك ) . قَالَ الطَّبَرَانِيّ : اللَّخْمِيّ لَا يَرْوِي - يَعْنِي هَذَا الْحَدِيث - عَنْ اِبْن الْمُنْكَدِر بِهَذَا التَّمَام وَالشِّعْر إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد ; وَتَفَرَّدَ بِهِ عُبَيْد اللَّه بْن خَلَصَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًاسورة الإسراء الآية رقم 25
أَيْ مِنْ اِعْتِقَاد الرَّحْمَة بِهِمَا وَالْحُنُوّ عَلَيْهِمَا , أَوْ مِنْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوق , أَوْ مِنْ جَعْل ظَاهِر بِرّهمَا رِيَاء . وَقَالَ اِبْن جُبَيْر : يُرِيد الْبَادِرَة الَّتِي تَبْدُر , كَالْفَلْتَةِ وَالزَّلَّة , تَكُون مِنْ الرَّجُل إِلَى أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدهمَا , لَا يُرِيد بِذَلِكَ بَأْسًا ;


أَيْ صَادِقِينَ فِي نِيَّة الْبِرّ بِالْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ اللَّه يَغْفِر الْبَادِرَة .


وَعَدَ بِالْغُفْرَانِ مَعَ شَرْط الصَّلَاح وَالْأَوْبَة بَعْد الْأَوْبَة إِلَى طَاعَة اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى . قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هُوَ الْعَبْد يَتُوب ثُمَّ يُذْنِب ثُمَّ يَتُوب ثُمَّ يُذْنِب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الْأَوَّاب : الْحَفِيظ الَّذِي إِذَا ذَكَرَ خَطَايَاهُ اِسْتَغْفَرَ مِنْهَا . وَقَالَ عُبَيْد بْن عُمَيْر : هُمْ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ ذُنُوبهمْ فِي الْخَلَاء ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِبَة . وَقَالَ عَوْن الْعُقَيْلِيّ : الْأَوَّابُونَ هُمْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ صَلَاة الضُّحَى . وَفِي الصَّحِيح : ( صَلَاة الْأَوَّابِينَ حِين تَرْمَض الْفِصَال ) . وَحَقِيقَة اللَّفْظ مِنْ آبَ يَؤُوبُ إِذَا رَجَعَ .
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 26
أَيْ كَمَا رَاعَيْت حَقّ الْوَالِدَيْنِ فَصِلْ الرَّحِم , ثُمَّ تَصَدَّقْ عَلَى الْمِسْكِين وَابْن السَّبِيل . وَقَالَ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن فِي قَوْله تَعَالَى : " وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقّه " : هُمْ قَرَابَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَائِهِمْ حُقُوقهمْ مِنْ بَيْت الْمَال , أَيْ مِنْ سَهْم ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ الْغَزْو وَالْغَنِيمَة , وَيَكُون خِطَابًا لِلْوُلَاةِ أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامهمْ . وَالْحَقّ فِي هَذِهِ الْآيَة مَا يَتَعَيَّن مِنْ صِلَة الرَّحِم , وَسَدّ الْخَلَّة , وَالْمُوَاسَاة عِنْد الْحَاجَة بِالْمَالِ , وَالْمَعُونَة بِكُلِّ وَجْه .


أَيْ لَا تُسْرِف فِي الْإِنْفَاق فِي غَيْر حَقّ . قَالَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : وَالتَّبْذِير إِنْفَاق الْمَال فِي غَيْر حَقّه , وَلَا تَبْذِير فِي عَمَل الْخَيْر . وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور . وَقَالَ أَشْهَب عَنْ مَالِك : التَّبْذِير هُوَ أَخْذ الْمَال مِنْ حَقّه وَوَضْعه فِي غَيْر حَقّه , وَهُوَ الْإِسْرَاف , وَهُوَ حَرَام لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَان الشَّيَاطِين "

مَنْ أَنْفَقَ مَاله فِي الشَّهَوَات زَائِدًا عَلَى قَدْر الْحَاجَات وَعَرَّضَهُ بِذَلِكَ لِلنَّفَادِ فَهُوَ مُبَذِّر . وَمَنْ أَنْفَقَ رِبْح مَاله فِي شَهَوَاته وَحَفِظَ الْأَصْل أَوْ الرَّقَبَة فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ . وَمَنْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي حَرَام فَهُوَ مُبَذِّر , وَيُحْجَر عَلَيْهِ فِي نَفَقَته الدِّرْهَم فِي الْحَرَام , وَلَا يُحْجَر عَلَيْهِ إِنْ بَذَلَهُ فِي الشَّهَوَات إِلَّا إِذَا خِيفَ عَلَيْهِ النَّفَاد .
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًاسورة الإسراء الآية رقم 27
" إِخْوَان " يَعْنِي أَنَّهُمْ فِي حُكْمهمْ ; إِذْ الْمُبَذِّر سَاعٍ فِي إِفْسَاد كَالشَّيَاطِينِ , أَوْ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا تُسَوِّل لَهُمْ أَنْفُسهمْ , أَوْ أَنَّهُمْ يُقْرَنُونَ بِهِمْ غَدًا فِي النَّار ; ثَلَاثَة أَقْوَال . وَالْإِخْوَان هُنَا جَمْع أَخ مِنْ غَيْر النَّسَب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة " [ الْحُجُرَات : 10 ] . وَقَرَأَ الضَّحَّاك " إِخْوَان الشَّيْطَان " عَلَى الِانْفِرَاد , وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي مُصْحَف أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .



أَيْ اِحْذَرُوا مُتَابَعَته وَالتَّشَبُّه بِهِ فِي الْفَسَاد . وَالشَّيْطَان اِسْم الْجِنْس .
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًاسورة الإسراء الآية رقم 28
أَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى خَصَّ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : " وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ اِبْتِغَاء رَحْمَة مِنْ رَبّك تَرْجُوهَا " . وَهُوَ تَأْدِيب عَجِيب وَقَوْل لَطِيف بَدِيع , أَيْ لَا تُعْرِض عَنْهُمْ إِعْرَاض مُسْتَهِين عَنْ ظَهْر الْغِنَى وَالْقُدْرَة فَتَحْرِمهُمْ . وَإِنَّمَا يَجُوز أَنْ تُعْرِض عَنْهُمْ عِنْد عَجْز يَعْرِض وَعَائِق يَعُوق , وَأَنْتَ عِنْد ذَلِكَ تَرْجُو مِنْ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فَتْح بَاب الْخَيْر لِتَتَوَصَّل بِهِ إِلَى مُوَاسَاة السَّائِل ; فَإِنْ قَعَدَ بِك الْحَال فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا .

فِي سَبَب نُزُولهَا ; قَالَ اِبْن زَيْد : نَزَلَتْ الْآيَة فِي قَوْم كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْبَى أَنْ يُعْطِيهُمْ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَم مِنْهُمْ نَفَقَة الْمَال فِي فَسَاد , فَكَانَ يَعْرِض عَنْهُمْ رَغْبَة فِي الْأَجْر فِي مَنْعهمْ لِئَلَّا يُعِينهُمْ عَلَى فَسَادهمْ . وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ فِي قَوْله تَعَالَى " وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ اِبْتِغَاء رَحْمَة مِنْ رَبّك تَرْجُوهَا " قَالَ : لَيْسَ هَذَا فِي ذِكْر الْوَالِدَيْنِ , جَاءَ نَاس مِنْ مُزَيْنَة إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحْمِلُونَهُ ; فَقَالَ : ( لَا أَجِد مَا أَحْمِلكُمْ عَلَيْهِ ) فَتَوَلَّوْا وَأَعْيُنهمْ تَفِيض مِنْ الدَّمْع حَزَنًا ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ اِبْتِغَاء رَحْمَة مِنْ رَبّك تَرْجُوهَا " . وَالرَّحْمَة الْفَيْء . وَالضَّمِير فِي " عَنْهُمْ " عَائِد عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرهمْ مِنْ الْآبَاء وَالْقَرَابَة وَالْمَسَاكِين وَأَبْنَاء السَّبِيل .



أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ , أَيْ يَسِّرْ فَقْرهمْ عَلَيْهِمْ بِدُعَائِك لَهُمْ . وَقِيلَ : اُدْعُ لَهُمْ دُعَاء يَتَضَمَّن الْفَتْح لَهُمْ وَالْإِصْلَاح . وَقِيلَ : الْمَعْنَى " وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ " أَيْ إِنْ أَعْرَضْت يَا مُحَمَّد عَنْ إِعْطَائِهِمْ لِضِيقِ يَد فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ; أَيْ أَحْسِنْ الْقَوْل وَابْسُطْ الْعُذْر , وَادْعُ لَهُمْ بِسَعَةِ الرِّزْق , وَقُلْ إِذَا وَجَدْت فَعَلْت وَأَكْرَمْت ; فَإِنَّ ذَلِكَ يَعْمَل فِي مَسَرَّة نَفْسه عَمَل الْمُوَاسَاة . وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذَا سُئِلَ وَلَيْسَ عِنْده مَا يُعْطِي سَكَتَ اِنْتِظَارًا لِرِزْقٍ يَأْتِي مِنْ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى كَرَاهَة الرَّدّ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة , فَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُئِلَ وَلَيْسَ عِنْده مَا يُعْطِي قَالَ : ( يَرْزُقنَا اللَّه وَإِيَّاكُمْ مِنْ فَضْله ) . فَالرَّحْمَة عَلَى هَذَا التَّأْوِيل الرِّزْق الْمُنْتَظَر . وَهَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَعِكْرِمَة . و " قَوْلًا مَيْسُورًا " أَيْ لَيِّنًا لَطِيفًا طَيِّبًا , مَفْعُول بِمَعْنَى الْفَاعِل , مِنْ لَفْظ الْيُسْر كَالْمَيْمُونِ , أَيْ وَعْدًا جَمِيلًا , عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ . وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ : إِلَّا تَكُنْ وَرِق يَوْمًا أَجُود بِهَا لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّن الْعُود لَا يَعْدَم السَّائِلُونَ الْخَيْر مِنْ خُلُقِي إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْن مَرْدُودِي تَقُول : يَسَّرْت لَك كَذَا إِذَا أَعْدَدْته .
وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًاسورة الإسراء الآية رقم 29
هَذَا مَجَاز عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْبَخِيل الَّذِي لَا يَقْدِر مِنْ قَلْبه عَلَى إِخْرَاج شَيْء مِنْ مَاله ; فَضَرَبَ لَهُ مَثَل الْغُلّ الَّذِي يَمْنَع مِنْ التَّصَرُّف بِالْيَدِ . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : ضَرَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَل الْبَخِيل وَالْمُتَصَدِّق كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيد قَدْ اِضْطَرَّتْ أَيْدِيهمَا إِلَى ثُدِيّهمَا وَتَرَاقِيهمَا فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّق كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ اِنْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تَغْشَى أَنَامِله وَتَعْفُو أَثَره وَجَعَلَ الْبَخِيل كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ وَأَخَذَتْ كُلّ حَلْقَة بِمَكَانِهَا . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : فَأَنَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول بِأُصْبُعَيْهِ هَكَذَا فِي جَيْبه فَلَوْ رَأَيْته يُوَسِّعهَا وَلَا تَتَوَسَّع .



ضَرَبَ بَسْط الْيَد مَثَلًا لِذَهَابِ الْمَال , فَإِنَّ قَبْض الْكَفّ يَحْبِس مَا فِيهَا , وَبَسْطهَا يُذْهِب مَا فِيهَا . وَهَذَا كُلّه خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَاد أُمَّته , وَكَثِيرًا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ سَيِّدهمْ وَوَاسِطَتهمْ إِلَى رَبّهمْ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُمْ عَلَى عَادَة الْعَرَب فِي ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَمْ يَكُنْ يَدَّخِر شَيْئًا لِغَدٍ , وَكَانَ يَجُوع حَتَّى يَشُدّ الْحَجَر عَلَى بَطْنه مِنْ الْجُوع . وَكَانَ كَثِير مِنْ الصَّحَابَة يُنْفِقُونَ فِي سَبِيل اللَّه جَمِيع أَمْوَالهمْ , فَلَمْ يُعَنِّفهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِمْ لِصِحَّةِ يَقِينهمْ وَشِدَّة بَصَائِرهمْ . وَإِنَّمَا نَهَى اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى عَنْ الْإِفْرَاط فِي الْإِنْفَاق , وَإِخْرَاج مَا حَوَتْهُ يَده مِنْ الْمَال مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْحَسْرَة عَلَى مَا خَرَجَ مِنْ يَده , فَأَمَّا مَنْ وَثِقَ بِمَوْعُودِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَجَزِيل ثَوَابه فِيمَا أَنْفَقَهُ فَغَيْر مُرَاد بِالْآيَةِ , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَاصَّة نَفْسه , عَلَّمَهُ فِيهِ كَيْفِيَّة الْإِنْفَاق , وَأَمَرَهُ بِالِاقْتِصَادِ . قَالَ جَابِر وَابْن مَسْعُود : جَاءَ غُلَام إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ أُمِّي تَسْأَلك كَذَا وَكَذَا . فَقَالَ : ( مَا عِنْدنَا الْيَوْم شَيْء ) . قَالَ : فَتَقُول لَك اُكْسُنِي قَمِيصك ; فَخَلَعَ قَمِيصه فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ وَجَلَسَ فِي الْبَيْت عُرْيَانًا . وَفِي رِوَايَة جَابِر : فَأَذَّنَ بِلَال لِلصَّلَاةِ وَانْتَظَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُج , وَاشْتَغَلَتْ الْقُلُوب , فَدَخَلَ بَعْضهمْ فَإِذَا هُوَ عَارٍ ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة . وَكُلّ هَذَا فِي إِنْفَاق الْخَيْر . وَأَمَّا إِنْفَاق الْفَسَاد فَقَلِيله وَكَثِيره حَرَام , كَمَا تَقَدَّمَ .

نَهَتْ هَذِهِ الْآيَة عَنْ اِسْتِفْرَاغ الْوُجْد فِيمَا يَطْرَأ أَوَّلًا مِنْ سُؤَال الْمُؤْمِنِينَ ; لِئَلَّا يَبْقَى مَنْ يَأْتِي بَعْد ذَلِكَ لَا شَيْء لَهُ , أَوْ لِئَلَّا يُضَيِّع الْمُنْفِق عِيَاله . وَنَحْوه مِنْ كَلَام الْحِكْمَة : مَا رَأَيْت قَطُّ سَرَفًا إِلَّا وَمَعَهُ حَقّ مُضَيَّع . وَهَذِهِ مِنْ آيَات فِقْه الْحَال فَلَا يُبَيِّن حُكْمهَا إِلَّا بِاعْتِبَارِ شَخْص شَخْص مِنْ النَّاس .



قَالَ اِبْن عَرَفَة : يَقُول لَا تُسْرِف وَلَا تُتْلِف مَالَك فَتَبْقَى مَحْسُورًا مُنْقَطِعًا عَنْ النَّفَقَة وَالتَّصَرُّف ; كَمَا يَكُون الْبَعِير الْحَسِير , وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَتْ قُوَّته فَلَا اِنْبِعَاث بِهِ ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر خَاسِئًا وَهُوَ حَسِير " [ الْمُلْك : 4 ] أَيْ كَلِيل مُنْقَطِع . وَقَالَ قَتَادَة : أَيْ نَادِمًا عَلَى مَا سَلَفَ مِنْك ; فَجَعَلَهُ مِنْ الْحَسْرَة , وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ الْفَاعِل مِنْ الْحَسْرَة حَسِر وَحَسْرَان وَلَا يُقَال مَحْسُور . وَالْمَلُوم : الَّذِي يُلَام عَلَى إِتْلَاف مَاله , أَوْ يَلُومهُ مَنْ لَا يُعْطِيه .
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًاسورة الإسراء الآية رقم 30
لَمَّا ذَكَرَ عَاقِبَة الْبَخِيل وَالْمُنْفِق بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى الَّذِي يَبْسُط الرِّزْق وَيَقْدِر فِي الدُّنْيَا , لِأَنَّهَا دَار اِمْتِحَان ; " وَيَقْدِر " أَيْ يُضَيِّق ; وَمِنْهُ " وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقه " [ الطَّلَاق : 7 ] أَيْ ضُيِّقَ . وَقِيلَ : " يَقْدِر " يُعْطِي بِقَدْرِ الْكِفَايَة .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4