الصفحة 1الصفحة 2
قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌسورة إبراهيم الآية رقم 31
أي: " قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا " آمرا لهم بما فيه غاية صلاحهم, وأن ينتهزوا الفرصة, قبل أن لا يمكنهم ذلك: " يُقِيمُوا الصَّلَاةَ " ظاهرا وباطنا " وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ " أي: من النعم التي أنعمنا بها عليهم, قليلا أو كثيرا " سِرًّا وَعَلَانِيَةً " .
وهذا يشمل النفقة الواجبة, كالزكاة, ونفقة من تجب عليه نفقته, والمستحبة, كالصدقات ونحوها.
" مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ " أي: لا ينفع فيه شيء, ولا سبيل إلى استدراك ما فات, لا بمعاوضة بيع وشراء, ولا بهبة خليل وصديق.
فكل امرئ له شأن يغنيه.
فليقدم العبد لنفسه, ولينظر ما قدمه لغد, وليتفقد أعماله, ويحاسب نفسه, قبل الحساب الأكبر.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَسورة إبراهيم الآية رقم 32
يخبر تعالى: أنه وحده " الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " على اتساعهما وعظمهما.
" وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً " وهو: المطر الذي ينزله الله من السحاب.
" فَأَخْرَجَ بِهِ " أي: بذلك الماء " مِنَ الثَّمَرَاتِ " المختلفة الأنواع.
" رِزْقًا لَكُمْ " ورزقا لأنعامكم " وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ " أي: السفن والمراكب.
" لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ " فهو الذي يسر لكم صنعتها, وأقدركم عليها, وحفظها على تيار الماء, لتحملكم, وتحمل تجاراتكم وأمتعتكم, إلى بلد تقصدونه.
" وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ " لتسقي حروثكم وأشجاركم, وتشربوا منها.
وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَسورة إبراهيم الآية رقم 33
" وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ " لا يفتران, ولا ينيان, يسعيان لمصالحكم, من حساب أزمنتكم ومصالح أبدانكم, وحيواناتكم, وزروعكم, وثماركم.
" وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ " لتسكنوا فيه " وَالنَّهَارِ " مبصرا, لتبتغوا من فضله.
وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌسورة إبراهيم الآية رقم 34
" وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ " أي: أعطاكم من كل ما تعلقت به أمانيكم وحاجتكم, مما تسألونه إياه.
بلسان الحال, أو بلسان المقال, من أنعام, وآلات, وصناعات وغير ذلك.
" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا " فضلا عن قيامكم بشكرها " إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ " أي: هذه طبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرئ على المعاصي, مقصر في حقوق ربه, كفار لنعم الله, لا يشكرها ولا يعترف بها, إلا من هداه الله, فشكر نعمه, وعرف حق ربه, وقام به.
ففي هذه الآيات, من أصناف نعم الله على العباد, شيء عظيم, مجمل, ومفصل, يدعو الله به العباد إلى القيام بشكره وذكره, ويحثهم على ذلك, ويرغبهم في سؤاله ودعائه, آناء الليل والنهار, كما أن نعمته, تتكرر عليهم, في جميع الأوقات.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَسورة إبراهيم الآية رقم 35
أي: واذكر إبراهيم, عليه الصلاة والسلام, في هذه الحالة الجميلة.
" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ " أي: الحرم " آمَنَّا " .
فاستجاب الله دعاءه شرعا وقدرا, فحرمه الله في الشرع, ويسر من أسباب حرمته, قدرا, ما هو معلوم.
حتى إنه لم يرده ظالم بسوء, إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم.
ولما دعا له بالأمن, دعا له ولبنيه بالأمن فقال: " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ " .
أي: اجعلني وإياهم, جانبا بعيدا عن عبادها, والإلمام بها.
ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه, بكثرة من افتتن وابتلى بعبادتها, فقال:
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة إبراهيم الآية رقم 36
" رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ " أي: ضلوا بسببها.
" فَمَنْ تَبِعَنِي " على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين " فَإِنَّهُ مِنِّي " لتمام الموافقة ومن أحب قوما واتبعهم, التحق بهم.
" وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وهذا من شفقة الخليل, عليه الصلاة والسلام, حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله, والله تبارك وتعالى, أرحم منه بعباده, لا يعذب إلا من تمرد عليه.
رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَسورة إبراهيم الآية رقم 37
" رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ " وذلك أنه أتى ب " هاجر " أم إسماعيل وبابنها إسماعيل, عليه الصلاة والسلام, وهو في الرضاع, من الشام, حتى وضعهما في مكة, وهي - إذ ذاك - ليس فيها سكن, ولا داع, ولا مجيب.
فلما وضعهما, دعا ربه بهذا الدعاء, فقال - متضرعا متوكلا على ربه: " رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي " أي: لا كل ذريتي, لأن إسحاق في الشام, وباقي بنيه كذلك, وإنما أسكن في مكة, إسماعيل وذريته.
وقوله: " بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ " أي: لأن أرض مكة لم يكن فيها ماء.
" رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ " أي: اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة, لأن إقامة الصلاة من أخص, وأفضل العبادات الدينية, فمن أقامها, كان مقيما لدينه.
" فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ " أي: تحبهم, وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه.
فأجاب الله دعاءه, فأخرج من ذرية إسماعيل, محمدا صلى الله عليه وسلم, حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي, وإلى ملة أبيهم إبراهيم, فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة.
وافترض الله حج هذا البيت, الذي أسكن به ذرية إبراهيم, وجعل فيه سرا عجيبا, جاذبا للقلوب, فهي تحجه, ولا تقضي منه وطرا على الدوام.
بل كلما أكثر العبد التردد إليه, ازداد شوقه, وعظم ولعه وتوقه.
وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة.
" وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ " فأجاب الله دعاءه.
فصار يجبي إليه, ثمرات كل شيء.
فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت, والثمار فيها متوفرة, والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب.
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءسورة إبراهيم الآية رقم 38
" رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ " أي: أنت أعلم بنا منا.
فنسألك من تدبيرك وتربيتك لنا, أن تيسر لنا من الأمور التي نعلمها, والتي لا نعلمها, ما هو مقتضى علمك ورحمتك.
" وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ " ومن ذلك, هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إلا الخير, وكثرة الشكر لله رب العالمين.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءسورة إبراهيم الآية رقم 39
" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ " فذلك من أكبر النعم.
وكونه على الكبر, في حال الإياس من الأولاد, نعمة أخرى.
وكونهم أنبياء صالحين, أجل وأفضل.
" إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ " أي: لقريب الإجابة, ممن دعاه, وقد دعوته, ولم يخيب رجائي.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءسورة إبراهيم الآية رقم 40
ثم دعا لنفسه ولذريته فقال: " رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ " .
فاستجاب الله له في ذلك كله, إلا أن دعاءه لأبيه, إنما كان عن موعدة وعده إياه, فلما تبين له أنه عدو لله, تبرأ منه.
ثم قال تعالى: " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا " إلى " وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ " .
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُسورة إبراهيم الآية رقم 41
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُسورة إبراهيم الآية رقم 42
هذا وعيد شديد للظالمين, وتسلية للمظلومين.
يقول تعالى: " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ " حيث أمهلهم وأدر عليهم الأرزاق, وتركهم يتقلبون في البلاد, آمنين مطمئنين.
فليس في هذا, ما يدل على حسن حالهم, فإن الله يملي للظالم ويمهله, ليزداد إثما, حتى إذا أخذه, لم يفلته " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " .
والظلم - ههنا - يشمل الظلم فيما بين العبد وربه, وظلمه لعباد الله.
" إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ " أي: لا تطرف من شدة ما ترى, من الأهوال وما أزعجها من القلاقل.
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءسورة إبراهيم الآية رقم 43
" مُهْطِعِينَ " أي: مسرعين إلى إجابة الداعي حين يدعوهم إلى الحضور بين يدي الله الحساب, لا امتناع لهم ولا محيص, ولا ملجأ.
" مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ " أي: رافعيها قد غلت أيديهم إلى الأذقان, فارتفعت لذلك, رءوسهم.
" لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ " أي: أفئدتهم فارغة من قلوبهم, قد صعدت إلى الحناجر, لكنها مملوءة من كل هم وغم, وحزن وقلق.
وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍسورة إبراهيم الآية رقم 44
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ " أي: صف لهم تلك الحال, وحذرهم من الأعمال الموجبة للعذاب, الذي حين يأتي في شدائده وقلاقله.
" فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا " بالكفر والتكذيب, وأنواع المعاصي, نادمين على ما فعلوا, سائلين للرجعة في غير وقتها.
" رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ " أي: ردنا إلى الدنيا, فإنا قد أبصرنا.
" نُجِبْ دَعْوَتَكَ " والله يدعو إلى دار السلام " وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ " وهذا كله, لأمل التخلص من العذاب الأليم, وإلا فهم كذبة في هذا الوعد " فلو ردوا, لعادوا لما نهوا عنه " .
ولهذا يوبخون ويقال لهم: " أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ " عن الدنيا, وانتقال إلى الآخرة, فها, قد تبين لكم حنثكم.
في إقسامكم, وكذبكم فيما تدعون.
وليس عملكم قاصرا في الدنيا من أجل الآيات البينات.
وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَسورة إبراهيم الآية رقم 45
بل " وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ " من أنواع العقوبات؟ وكيف أحل الله بهم العقوبات, حين كذبوا بالآيات البينات, وضربنا لكم الأمثال الواضحة التي لا تدع أدنى شك في القلب إلا أزالته.
فلم تنفع فيكم تلك الآيات, بل أعرضتم, ودمتم على باطلكم, حتى صار ما صار: ووصلتم إلى هذا اليوم الذي لا ينفع فيه اعتذار, من اعتذر بباطل.
وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُسورة إبراهيم الآية رقم 46
" وَقَدْ مَكَرُوا " أي: المكذبون للرسل " مَكْرُهُمْ " الذي وصلت إليه إرادتهم, وقدروا عليه.
" وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ " أي: هو محيط به علما وقدرة, وقد عاد مكرهم عليهم " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " " وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ " أي: ولقد كان مكر الكفار المكذبين للرسل, بالحق, وبمن جاء به - من عظمه - لتزول الجبال الراسيات بسببه, عن أماكنها.
أي: " مكروا مكرا كبارا " لا يقادر قدره ولكن الله رد كيدهم في نحورهم.
ويدخل في هذا, كل من مكر من المخالفين للرسل, لينصر باطلا, أو يبطل حقا.
والقصد أن مكرهم, لم يغن عنهم شيئا, ولم يضروا الله شيئا, وإنما ضروا أنفسهم.
فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍسورة إبراهيم الآية رقم 47
يقول تعالى: " فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ " بنجاتهم, ونجاة أتباعهم وسعادتهم, وإهلاك أعدائهم وخذلانهم في الدنيا, وعقابهم في الآخرة.
فهذا لا بد من وقوعه, لأنه وعد به الصادق قولا, على ألسنة أصدق خلقه, وهم: الرسل, وهذا أعلى ما يكون من الأخبار.
خصوصا, وهو مطابق للحكمة الإلهية, والسنن الربانية, وللعقول الصحيحة.
و " إِنَّ اللَّهَ " لا يعجزه شيء, فإنه " عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ " .
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِسورة إبراهيم الآية رقم 48
أي: إذا أراد أن ينتقم من أحد, فإنه لا يفوته ولا يعجزه, وذلك في يوم القيامة.
" يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ " تبدل غير السماوات.
وهذا التبديل, تبديل صفات, لا تبديل ذات, فإن الأرض يوم القيامة تسوي وتمد كمد الأديم, ويلقى ما على ظهرها من جبل ومعلم, فتصير قاعا صفصفا, لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.
وتكون السماء, كالمهل, من شدة أهوال ذلك اليوم, ثم يطويها الله تعالى بيمينه.
" وَبَرَزُوا " أي: الخلائق من قبورهم إلى يوم بعثهم, ونشورهم في محل لا يخفى منهم على الله شيء.
" لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " أي: المنفرد بعظمته وأسمائه وصفاته, وأفعاله العظيمة, وقهره لكل العوالم فكلها تحت تصرفه وتدبيره, فلا يتحرك منها متحرك, ولا يسكن ساكن إلا بإذنه.
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِسورة إبراهيم الآية رقم 49
" وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ " أي: الذين وصفهم الإجرام, وكثرة الذنوب.
" يَوْمَئِذٍ " في ذلك اليوم " مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ " أي: يسلسل كل أهل عمل من المجرمين, بسلاسل من نار, فيقادون إلى العذاب, في أذل صورة وأشنعها, وأبشعها.
سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُسورة إبراهيم الآية رقم 50
" سَرَابِيلُهُمْ " أي: ثيابهم " مِنْ قَطِرَانٍ " وذلك لشدة اشتعال النار فيهم وحرارتها, ونتن ريحها.
" وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ " التي هي أشرف ما في أبدانهم " النَّارَ " أي: تحيط بها, وتصلاها من كل جانب, وغير الوجوه من باب أولى وأحرى.
وليس هذا ظلما من الله, وإنما هو جزاء لما قدموا وكسبوا, ولهذا قال تعالى: " لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ " من خير وشر, بالعدل والقسط, " إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ " كقوله تعالى: " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ " .
ويحتمل أن معناه: سريع المحاسبة, فيحاسب الخلق في ساعة واحدة كما يرزقهم ويدبرهم بأنواع التدابير, في لحظة واحدة, لا يشغله شأن عن شأن, وليس ذلك بعسير عليه.
لِيَجْزِي اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِسورة إبراهيم الآية رقم 51
ويحتمل أن معناه: سريع المحاسبة, فيحاسب الخلق في ساعة واحدة كما يرزقهم ويدبرهم بأنواع التدابير, في لحظة واحدة, لا يشغله شأن عن شأن, وليس ذلك بعسير عليه.
هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِسورة إبراهيم الآية رقم 52
فلما بين البيان المبين في هذا القرآن, قال في مدحه: " هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ " أي: يتبلغون به, ويتزودون إلى الوصول إلى أعلى المقامات وأفضل الكرامات, لما اشتمل عليه من الأصول والفروع, وجميع العلوم التي يحتاجها العباد.
" وَلِيُنْذَرُوا بِهِ " لما فيه من الترهيب من أعمال الشر, وما أعد الله لأهلها من العقاب.
" وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ " حيث صرف فيه من الأدلة والبراهين, على ألوهيته ووحدانيته, ما صار ذلك حق اليقين.
" وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ " أي: العقول الكاملة, ما ينفعهم, فيفعلونه وما يضرهم, فيتركونه, وبذلك صاروا أولي الألباب والبصائر.
إذ بالقرآن, ازدادت معارفهم وآراؤهم, وتنورت أفكارهم, لما أخذوه غضا طريا, فإنه لا يدعو إلا إلى أعلى الأخلاق والأعمال وأفضلها.
ولا يستدل على ذلك إلا بأقوى الأدلة وأبينها.
وهذه القاعدة إذا تدرب بها العبد الذكي, لم يزل في صعود ورقي على الدوام في كل خصلة حميدة.
والحمد لله رب العالمين.
تم تفسير سورة إبراهيم الخليل, عليه الصلاة والسلام.
الصفحة 1الصفحة 2