الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3
حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍسورة الحج الآية رقم 31
أمرهم أن يكونوا " حُنَفَاءَ لِلَّهِ " مقبلين عليه, وعلى عبادته, معرضين عما سواه.
" غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ " فمثله " فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ " أي: سقط منها " فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ " بسرعة " أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ " أي: بعيد, كذلك المشركون.
فالإيمان بمنزلة السماء, محفوظة مرفوعة.
ومن ترك الإيمان, بمنزلة الساقط من السماء, عرضة للآفات والبليات.
فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء, كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفته الشياطين من كل جانب, ومزقوه, وأذهبوا عليه دينه ودنياه.
وإما أن تأخذه عاصفة شديدة من الريح فتعلو به في طبقات الجو فتقذفه بعد أن تتقطع أعضاؤه في مكان بعيد جدا.
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِسورة الحج الآية رقم 32
أي: ذلك الذي ذكرناه لكم, من تعظيم حرماته وشعائره.
والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة, ومنها المناسك كلها, كما قال تعالى " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ " ومنها الهدايا والقربان للبيت.
وتقدم أن معنى تعظيمها, إجلالها, والقيام بها, وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد.
ومنها الهدايا, فتعظيمها, باستحسانها واستسمانها, وأن تكون مكملة من كل وجه.
فتعظيم شعائر الله, صادر من تقوى القلوب.
فالمعظم لها, يبرهن على تقواه, وصحة إيمانه, لأن تعظيمها, تابع لتعظيم الله وإجلاله.
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِسورة الحج الآية رقم 33
" لَكُمْ فِيهَا " أي: في الهدايا " مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " هذا في الهدايا المسوقة, من البدن ونحوها, ينتفع بها أربابها, بالركوب, والحلب ونحو ذلك, مما لا يضرها " إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " مقدر, موقت وهو ذبحها, إذا وصلت " مَحِلُّهَا " وهو " الْبَيْتِ الْعَتِيقِ " أي المحرم كله " منى " وغيرها.
فإذا ذبحت, أكلوا منها, وأهدوا, وأطعموا البائس الفقير.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَسورة الحج الآية رقم 34
أي: ولكل أمة من الأمم السالفة, جعلنا منسكا.
أي: فاستبقوا إلى الخيرات وسارعوا إليها, ولننظر أيكم أحسن عملا.
والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكا, إقامة ذكره, والالتفات لشكره.
ولهذا قال: " لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ " .
وإن اختلفت أجناس الشرائع, فكلها متفقة على هذا الأصل, وهو: ألوهية الله, وإفراده بالعبودية, وترك الشرك به.
ولهذا قال: " فَلَهُ أَسْلِمُوا " أي: انقادوا واستسلموا له لا لغيره, فإن الإسلام, طريق الوصول إلى دار السلام.
" وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ " بخير الدنيا والآخرة.
والمخبت: الخاضع لربه, المستسلم لأمره, المتواضع لعباده.
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَسورة الحج الآية رقم 35
ثم ذكر صفات المخبتين فقال: " الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ " أي: خوفا وتعظيما, فتركوا لذلك, المحرمات, لخوفهم ووجلهم من الله وحده.
" وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ " من البأساء والضراء, وأنواع الأذى فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك, بل صبروا ابتغاء وجه ربهم, محتسبين ثوابه, مرتقبين أجره.
" وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ " أي: الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة, بأن أدوا اللازم فيها والمستحب, وعبوديتها الظاهرة والباطنة.
" وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة, كالزكاة, والكفارة, والنفقة على الزوجات والمماليك, والأقارب.
والنفقات المستحبة, كالصدقات بجميع وجوهها.
وأتي ب " من " المفيدة للتبعيض, ليعلم سهولة ما أمر الله به, ورغب فيه, وأنه جزء يسير مما رزق الله, ليس للعبد في تحصيله قدرة, لولا تيسير الله له, ورزقه إياه.
فيا أيها المرزوق من فضل الله, أنفق مما رزقك الله, ينفق الله عليك, ويزدك من فضله.
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَسورة الحج الآية رقم 36
هذا دليل على أن الشعائر عام, في جميع أعلام الدين الظاهرة.
وتقدم أن الله أخبر أن من عظم شعائره, فإن ذلك من تقوى القلوب وهنا أخبر, أن من جملة شعائره, البدن, أي: الإبل, والبقر, على أحد القولين, فتعظم وتسمن, وتستحسن.
" لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ " أي: للمهدي وغيره, من الأكل, والصدقة, والانتفاع, والثواب, والأجر.
" فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا " أي: عند ذبحها قولوا " بسم الله " واذبحوها.
" صَوَافَّ " أي: قائمات, بأن تقام على قوائمها الأربع, ثم تعقل يدها اليسرى, ثم تنحر.
" فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا " أي: سقطت على الأرض جنوبها, حين تسلخ, ثم يسقط الجزار جنوبها على الأرض, فحينئذ قد استعدت, لأن يؤكل منها.
" فَكُلُوا مِنْهَا " وهذا خطاب للمهدي, فيجوز له الأمر من هديه.
" وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ " أي: الفقير الذي لا يسأل, تقنعا, وتعففا, والفقير الذي يسأل, فكل منهما, له حق فيهما.
" كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ " أي: البدن " لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " الله على تسخيرها.
فإنه, لولا تسخيره لها, لم يكن لكم بها طاقة, ولكنه ذللها لكم, وسخرها, رحمة بكم وإحسانا إليكم, فاحمدوه.
لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَسورة الحج الآية رقم 37
وقوله " لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا " أي: ليس المقصود منها, ذبحها فقط.
ولا ينال الله من لحومها, ولا دمائها شيء, لكونه الغني الحميد.
وإنما يناله الإخلاص فيها, والاحتساب, والنية الصالحة, ولهذا قال: " وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ " .
ففي هذا, حث وترغيب على الإخلاص في النحر, أن يكون القصد وجه الله وحده, لا فخرا, ولا رياء, ولا سمعة, ولا مجرد عادة.
وهكذا سائر العبادات, إن لم يقترن بها الإخلاص, وتقوى الله, كانت كالقشر الذي لا لب فيه, والجسد, الذي لا روح فيه.
" كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ " أي: تعظموه وتجلوه.
" عَلَى مَا هَدَاكُمْ " أي: مقابلة لهدايته إياكم, فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد, وأعلى التعظيم.
" وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ " بعبادة الله بأن يعبدوا الله, كأنهم يرونه, فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة, فليعبدوه, معتقدين وقت عبادتهم, اطلاعه عليهم, ورؤيته إياهم.
والمحسنين لعباد الله, بجميع وجوه الإحسان, من نفع مال, أو علم, أو جاه, أو نصح, أو أمر بمعروف, أو نهي عن منكر, أو كلمة طيبة ونحو ذلك.
فالمحسنون, لهم البشارة من الله, بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم, كما أحسنوا في عبادته ولعباده " هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ " " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ " .
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍسورة الحج الآية رقم 38
هذا إخبار, ووعد, وبشارة من الله, للذين آمنوا, أن الله يدفع عنهم كل مكروه.
ويدفع عنهم - بسبب إيمانهم - كل شر من شرور الكفار, وشرور وسوسة الشيطان, وشرور أنفسهم, وسيئات أعمالهم ويحمل عنهم عند نزول المكاره, ما لا يتحملون, فيخفف عنهم غاية التخفيف.
كل مؤمن, له من هذه المدافعة والفضيلة, بحسب إيمانه, فمستقل, ومستكثر.
" إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ " أي: خائن في أمانته, التي حمله الله إياها, فيبخس حقوق الله عليه, ويخونها, ويخون الخلق.
" كَفُورٌ " لنعم الله, يوالي الله عليه الإحسان, ويتوالى منه الكفر والعصيان.
فهذا لا يحبه الله, بل يبغضه ويمقته, وسيجازيه على كفره وخيانته.
ومفهوم الآية, أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته, شكور لمولاه.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌسورة الحج الآية رقم 39
كان المسلمون في أول الإسلام, ممنوعين من قتال الكفار, ومأمورين بالصبر عليهم, لحكمة إلهية.
فلما هاجروا إلى المدينة, وأوذوا, وحصل لهم منعة وقوة, أذن لهم بالقتال, كما قال تعالى " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ " يفهم منه أنهم كانوا قبل, ممنوعين, فأذن الله لهم بقتال الذين يقاتلونهم.
وإنما أذن لهم, لأنهم ظلموا, بمنعهم من دينهم, وأذيتهم عليه, وإخراجهم من ديارهم.
" وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ " فليستنصروه, وليستعينوا به.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌسورة الحج الآية رقم 40
ثم ذكر صفة ظلمهم فقال: " الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ " أي: ألجئوا إلى الخروج, بالأذية والفتنة " بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا " أن ذنبهم الذي نقم منهم أعداؤهم " أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ " أي: إلا لأنهم وحدوا الله, وعبدوه مخلصين له الدين.
فإن كان هذا ذنبا, فهو ذنبهم كقوله تعالى " وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " وهذا يدل على حكمة الجهاد, فإن المقصود منه, إقامة دين الله, أو ذب الكفار المؤذين للمؤمنين, البادئين لهم بالاعتداء, عن ظلمهم, واعتدائهم, والتمكن من عبادة الله, وإقامة الشرائع الظاهرة.
ولهذا قال: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ " فيدفع الله بالمجاهدين في سبيله, ضرر الكافرين.
" لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ " أي: لهدمت هذه المعابد الكبار, لطوائف أهل الكتاب, معابد اليهود, والنصارى, والمساجد للمسلمين " يُذْكَرَ فِيهَا " أي: في هذه المعابد " اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا " تقام فيها الصلوات, وتتلى فيها كتب الله, ويذكر فيها, اسم الله, بأنواع الذكر.
فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض, لاستولى الكفار على المسلمين, فخربوا معابدهم, وفتنوهم عن دينهم.
فدل هذا, أن الجهاد مشروع, لأجل دفع الصائل والمؤذي, ومقصود لغيره.
ودل ذلك, على أن البلدان, التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله, وعمرت مساجدها, وأقيمت فيها شعائر الدين كلها, من فضائل المجاهدين وبركتهم, فبذلك دفع الله عنها الكافرين قال الله تعالى: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ " .
فإن قلت نرى الآن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب, مع أنها كثير منها إمارة صغيرة, وحكومة غير منظمة, مع أنهم لا بد لهم بقتال من جاورهم من الأفرنج.
بل نرى المساجد التي تحت ولايتهم وسيطرتهم, عامرة, وأهلها آمنون مطمئنون, مع قدرة ولاتهم من الكفار على هدمها والله أخبر أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض, لهدمت هذه المعابد, ونحن لا نشاهد دفعا.
أجيب, بأن جواب هذا السؤال والاستشكال, داخل في عموم هذه الآية, وفرد من أفرادها.
فإن من عرف أحوال الدول الآن ونظامها, وأنها تعتبر كل أمة وجنس, تحت ولايتها, وداخل في حكمها, تعتبره عضوا من أعضاء المملكة, وجزءا من أجزاء الحكومة, سواء كانت تك الأمة مقتدرة بعددها أو عددها, أو مالها, أو علمها, أو خدمتها.
فتراعي الحكومات, مصالح ذلك الشعب, الدينية والدينوية, وتخشى إن لم تفعل ذلك, أن يختل نظامها, وتفقد بعض أركانها, فيقوم من أمر الدين بهذا السبب ما يقوم, خصوصا المساجد, فإنها - ولله الحمد - في غاية الانتظام, حتى في عواصم الدول الكبار.
وتراعي تلك الدول, الحكومات المستقلة, نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين مع وجود التحاسد والتباغض بين دول النصارى, الذي أخبر الله أنه لا يزال إلى يوم القيامة.
فتبقى الحكومة المسلمة, التي لا تقدر على أن تداع عن نفسها, سالمة من كثير ضررهم, لقيام الحسد عندهم, وفيما بينهم.
فلا يقدر أحد, أن يمد يده عليها, خوفا من احتمائها بالآخر مع أن الله تعالى, لا بد أن يري عباده من نصر الإسلام والمسلمين, ما قد وعد به في كتابه.
وقد ظهرت ولله الحمد, أسبابه, بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم, والشعور مبدأ العمل فنحمده, ونسأله أن يتم نعمته.
ولهذا قال في وعده الصادق المطابق للواقع: " وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ " .
أي: يقوم بنصر دينه, مخلصا له في ذلك, يقاتل في سبيله, لتكون كلمة الله هي العليا.
" إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " أي: كامل القوة, عزيز لا يرام, قد قهر الخلائق, وأخذ بنواصيهم.
فأبشروا, يا معشر المسلمين, فإنكم, وإن ضعف عددكم, وعددكم.
وقوي عدد عدوكم, فإن ركنكم, القوي العزيز, ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون.
فاعملوا بالأسباب المأمور بها, ثم اطلبوا منه نصركم, فلا بد أن ينصركم.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " وقوموا, أيها المسلون, بحق الإيمان والعمل الصالح فقد " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا " .
الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِسورة الحج الآية رقم 41
ثم ذكر علامة من ينصره, وبها يعرف, أن من ادعى أنه ينصر الله, وينصر دينه, ولم يتصف بهذا الوصف, فهو كاذب فقال: " الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ " أي ملكناهم إياها, وجعلناهم المتسلطين عليها, من غير منازع ينازعهم, ولا معارض.
" أَقَامُوا الصَّلَاةَ " في أوقاتها, وحددوها, وأركانها, وشروطها, في الجمعة والجماعات.
" وَآتُوا الزَّكَاةَ " التي عليهم, خصوصا, وعلى رعيتهم عموما, آتوها أهلها, الذين هم أهلها.
" وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ " وهذا يشمل معروف حسنه شرعا وعقلا, من حقوق الله, وحقوق الآدميين.
" وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ " كل منكر شرعا وعقلا, معروف قبحه.
والأمر بالشيء والنهي عنه, يدخل فيه, ما لا يتم إلا به.
فإذا كان المعروف والمنكر, يتوقف على تعلم وتعليم, أجبروا الناس على التعلم والتعليم.
وإذا كان يتوقف, على تأديب مقدر شرعا, أو غير مقدر, كأنواع التعزير, قاموا بذلك.
وإذا كان يتوقف على جعل أناس, متصدين له, لزم ذلك, ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, إلا به.
" وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ " أي: جميع الأمور, ترجع إلى الله, وقد أخبر أن العاقبة للتقوى.
فمن سلطه أي: على العباد, من الملوك, وقام بأمر الله, كانت له العاقبة الحميدة, والحالة الرشيدة.
ومن تسلط عليهم, بالجبروت, وأقام فيهم هوى نفسه, فإنه, وإن حصل له ملك مؤقت, فإن عاقبته غير حميدة, فولايته مسئومة, وعاقبته مذمومة.
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُسورة الحج الآية رقم 42
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن يكذبك هؤلاء المشركون فلست بأول رسول كذب, وليسوا بأول أمة, كذبت رسولها.
" فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ " أي قوم شعيب.
" وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ " المكذبين, فلم أعاجلهم بالعقوبة بل أمهلتهم, حتى استمروا في طغيانهم يعمهون, وفي كفرهم وشرهم يزدادون.
" ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ " بالعذاب أخذ عزيز مقتدر " فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ " .
أي: إنكاري عليهم كفرهم, وتكذيبهم كيف حاله, كان أشد العقوبات, وأفظع المثلات.
فمنهم من أغرقه, ومنهم من أخذته الصيحة, ومنهم من أهلك بالريح العقيم.
ومنهم من خسف به الأرض, ومنهم من أرسل عليه عذاب يوم الظلة.
فليعتبر بهم, هؤلاء المكذبون, أن يصيبهم ما أصابهم, فإنهم ليسوا خيرا منهم, ولا كتب لهم.
وبراءة في الكتب المنزلة من الله.
وكم من المعذبين المهلكين أمثال هؤلاء كثير, ولهذا قال:
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍسورة الحج الآية رقم 43
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِسورة الحج الآية رقم 44
" ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ " بالعذاب أخذ عزيز مقتدر " فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ " .
أي: إنكاري عليهم كفرهم, وتكذيبهم كيف حاله, كان أشد العقوبات, وأفظع المثلات.
فمنهم من أغرقه, ومنهم من أخذته الصيحة, ومنهم من أهلك بالريح العقيم.
ومنهم من خسف به الأرض, ومنهم من أرسل عليه عذاب يوم الظلة.
فليعتبر بهم, هؤلاء المكذبون, أن يصيبهم ما أصابهم, فإنهم ليسوا خيرا منهم, ولا كتب لهم.
وبراءة في الكتب المنزلة من الله.
وكم من المعذبين المهلكين أمثال هؤلاء كثير , ولهذا قال:
فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍسورة الحج الآية رقم 45
" فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ " أي: وكم من قرية " أَهْلَكْنَاهَا " بالعذاب الشديد, والخزي الدنيوي.
" وَهِيَ ظَالِمَةٌ " بكفرها بالله وتكذيبها لرسله, لم يكن عقوبتنا لها, ظلما منا.
" فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا " أي: فديارهم متهدمة, قصورها, وجدرانها, قد سقطت على عروشها.
فأصبحت خرابا, بعد أن كانت عامرة, وموحشة بعد أن كانت آهلة بأهلها آنسة.
" وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ " أي: وكم من بئر, قد كان يزدحم عليها الخلق, لشربهم, وشرب مواشيهم.
فقد أهلها, وعدم منها الوارد والصادر.
وكم من قصر, تعب عليه أهله, فشيدوه, ورفعوه, وحصنوه, وزخرفوه.
فحين جاءهم أمر الله, لم يغن عنهم شيئا, وأصبح خاليا من أهله, قد صاروا عبرة لمن اعتبر, ومثالا لمن فكر ونظر.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِسورة الحج الآية رقم 46
ولهذا دعا الله عباده إلى السير في الأرض, لينظروا, ويعتبروا فقال: " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ " بأبدانهم وقلوبهم " فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا " آيات الله ويتأملون بها مواقع عبره.
" أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا " أخبار الأمم الماضين, وأنباء القرون المعذبين وإلا فمجرد نظر العين, وسماع الأذن, وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار, غير مفيد, ولا موصل إلى المطلوب.
ولهذا قال: " فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ " .
أي: هذا العمى الضار في الدين, عمى القلب عن الحق, حتى لا يشاهده كما لا يشاهد الأعمى المرئيات, وأما عمى البصر, فغايته بلغة, ومنفعة دنيوية.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَسورة الحج الآية رقم 47
أي: يتعجلك هؤلاء المكذبون بالعذاب, لجهلهم, وظلمهم, وعنادهم وتعجيزا لله, وتكذيبا لرسله, ولن يخلف الله وعده.
فما وعدهم به من العذاب, لابد من وقوعه, ولا يمنعهم منه مانع.
وأما عجلته, والمبادرة فيه, فليس ذلك إليك يا محمد, ولا يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا.
فإن أمامهم, يوم القيامة, الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم, ويجازون بأعمالهم, ويقع بهم العذاب الدائم الأليم, ولهذا قال: " وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ " من طوله, وشدته, وهو له.
فسواء أصابهم عذاب في الدنيا, أم تأخر عنهم العذاب, فإن هذا اليوم, لا بد أن يدركهم.
ويحتمل أن المراد: أن الله حليم, ولو استعجلوا العذاب, فإن يوما عنده, كألف سنة مما تعدون.
فالمدة, وإن تطاولتموها, واستبطأتم فيها نزول العذاب, فإن الله يمهل المدد الطويلة, ولا يهمل, حتى إذا أخذ الظالمين بعذابه, لم يفلتهم.
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُسورة الحج الآية رقم 48
" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا " أي: أمهلتها مدة طويلة " وَهِيَ ظَالِمَةٌ " أي: مع ظلمهم, فلم يكن مبادرتهم بالظلم, موجبا لمبادرتنا بالعقوبة.
" ثُمَّ أَخَذْتُهَا " بالعذاب " وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ " أي: مع عذابها في الدنيا, سترجع إلى الله, فيعذبها بذنوبها.
فليحذر هؤلاء الظالمون, من حلول عقاب الله, ولا يغتروا بالإمهال.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌسورة الحج الآية رقم 49
يأمر تعالى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الناس جميعا, بأنه رسول الله حقا, مبشرا للمؤمنين بثواب الله, منذرا للكافرين والظالمين, من عقابه.
وقوله " مُبِينٌ " أي: بين الإنذار, وهو التخويف, مع الإعلام بالمخوف.
وذلك لأنه أقام البراهين الساطعة, على صدق ما أنذرهم به.
ثم ذكر تفصيل النذارة والبشارة فقال:
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌسورة الحج الآية رقم 50
" فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ " لما حصل منهم من الذنوب.
" وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " هي الجنة.
والكريم من كل نوع: ما يجمع فضائله ويجوز كمالاته.
وحاصل معنى الآية.
فالذين آمنوا بالله ورسوله واستقر ذلك الإيمان.
بقلوبهم حتى أصبح إيمانا صادقا وعملوا الأعمال الصالحة لهم مغفرة من الله لذنوبهم التي وقعوا فيها, كما أن لهم رزقا كريما في الجنة, جمع هذا الرزق جميع الفضائل والكمالات.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِسورة الحج الآية رقم 51
" وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ " أي: سابقين أو سابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم " أُولَئِكَ " الموصوفون بما ذكر من السعي والمعاجزة " أَصْحَابِ الْجَحِيمِ " أي: ملازمون للنار الموقدة المصاحبون لها في كل أوقاتهم, فلا يخفف عنهم من عذابها ولا يفتر عنهم لحظة من أليم عقابها.
وحاصل المعنى.
والذين أجهدوا أنفسهم في محاربة القرآن, مسابقين المؤمنين في زعمهم, معارضين لهم, شاقين, زاعمين - خطأ - أنهم بذلك يبلغون ما يريدون, أولئك يخلدون في عذاب الجحيم.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة الحج الآية رقم 52
يخبر تعالى بحكمته البالغة, واختياره لعباده, وأن الله ما أرسل قبل محمد " مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى " أي: قرأ قراءته, التي يذكر بها الناس, ويأمرهم وينهاهم.
" أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ " أي: في قراءته, من طرقه, ومكايده, ما هو مناقض لتلك القراءة.
مع أن الله تعالى, قد عصم الرسل, بما يبلغون عن الله, وحفظ وحيه, أن يشتبه, أو يختلط بغيره.
ولكن هذا إلقاء من الشيطان, غير مستقر, ولا مستمر, وإنما هو عارض, يعرض, ثم يزول, وللعوارض أحكام, ولهذا قال: " فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ " أي: يزيله ويذهبه, ويبطله, ويبين أنه ليس من آياته.
" ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ " أي: يتقنها, ويحررها, ويحفظها, فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان.
" وَاللَّهُ عَزِيزٌ " أي: كامل القوة والاقتدار.
فبكمال قوته, يحفظ وحيه, ويزيل ما تلقيه الشياطين.
" حَكِيمٌ " يضع الأشياء مواضعها.
فمن كمال حكمته, مكن الشياطين من الإلقاء المذكور, ليحصل ما ذكره بقوله:
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍسورة الحج الآية رقم 53
" لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً " لطائفتين من الناس, لا يبالي الله بهم.
" لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ " أي: ضعف وعدم إيمان تام, وتصديق جازم, فيؤثر في قلوبهم, أدنى شبهة تطرأ عليها, فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان, داخلهم الريب والشك, فصار فتنة لهم.
" وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ " أي: الغليظة, التي لا يؤثر فيها زجر ولا تذكير, ولا تفهم عن الله وعن رسوله لقسوتها.
فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان, جعلوه حجة لهم على باطلهم, وجادلوا به وشاقوا الله ورسوله, ولهذا قال: " وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ " أي: مشاقة لله, ومعاندة للحق, ومخالفة له, بعيد من الصواب.
فما يلقيه الشيطان, يكون فتنة لهؤلاء الطائفتين, فيظهر به ما في قلوبهم, من الخبث الكامن فيها.
وأما الطائفة الثالثة, فإنه يكون رحمة في حقها, وهم المذكورون بقوله:
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍسورة الحج الآية رقم 54
" وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ " وأن الله منحهم من العلم, ما به يعرفون الحق من الباطل, والرشد من الغي.
فيفرقون بين الأمرين, الحق المستقر, الذي يحكمه الله, والباطل العارض الذي ينسخه الله, بما على كل منهما من الشواهد, وليعلموا أن الله حكيم, يقيض بعض أنواع الابتلاء, ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة.
" فَيُؤْمِنُوا بِهِ " بسبب ذلك, ويزداد إيمانهم, عند دفع المعارض والشبهة.
" فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ " أي: تخشع وتخضع, وتسلم لحكمته, وهذا من هدايته إياهم.
" وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا " بسبب إيمانهم " إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " علم بالحق, وعمل بمقتضاه, فيثبت الله الذين آمنوا, بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وهذا النوع, من تثبيت الله لعبده.
وهذه الآيات, فيها بيان أن للرسول صلى الله عليه وسلم, أسوة بإخوانه المرسلين, لما وقع منه عند قراءته صلى الله عليه وسلم " والنجم " فلما بلغ " أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى " ألقى الشيطان في قراءته " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى " فحصل بذلك للرسول حزن وللناس فتنة, كما ذكر الله, فأنزل الله هذه الآيات.
وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍسورة الحج الآية رقم 55
يخبر تعالى عن حالة الكفار, وأنهم لا يزالون في شك, مما جئتهم به, يا محمد, لعنادهم, وإعراضهم, وأنهم لا يبرحون مستمرين على هذه الحال " حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً " أي: مفاجأة " أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ " أي: لا خير فيه, وهو يوم القيامة.
فإذا جاءتهم الساعة, أو أتاهم ذلك اليوم, علم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين, وندموا, حيث لا ينفعهم الندم, وأبلسوا, وأيسوا من كل خير, وودوا, لو آمنوا بالرسول, واتخذوا معه سبيلا.
ففي هذا, تحذير من إقامتهم على مريتهم وفريتهم.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِسورة الحج الآية رقم 56
" الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ " أي: يوم القيامة " لِلَّهِ " تعالى, لا لغيره.
" يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ " بحكمه العدل, وقضائه الفصل.
" فَالَّذِينَ آمَنُوا " بالله ورسوله, وما جاءوا به " وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " ليصدقوا بذلك إيمانهم " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " نعيم القلب, والروح, والبدن, مما لا يصفه الواصفون, ولا تدركه العقول.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌسورة الحج الآية رقم 57
" وَالَّذِينَ كَفَرُوا " بالله ورسله " وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا " الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها, أو عاندوها.
" فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ " لهم, من شدته, وألمه, وبلوغه للأفئدة كما استهانوا برسله وآياته, أهانهم الله بالعذاب.
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَسورة الحج الآية رقم 58
هذه بشارة كبرى, لمن هاجر في سبيل الله.
فخرج من داره, ووطنه, وأولاده, وماله ابتغاء وجه الله, ونصرة لدين الله.
فهذا قد وجب أجره على الله, سواء مات على فراشه, أو قتل مجاهدا في سبيل الله.
" لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا " في البرزخ, وفي يوم القيامة بدخول الجنة الجامعة, للروح والريحان, والحسن والإحسان, ونعيم القلب والبدن.
أو يحتمل أن المراد: أن المهاجر في سبيل الله, قد تكفل الله برزقه في الدنيا, رزقا واسعا حسنا, سواء علم الله منه أنه يموت على فراشه, أو يقتل شهيدا, فكلهم مضمون له الرزق.
فلا يتوهم أنه إذا خرج من دياره وأمواله, سيفتقر ويحتاج, فإن رازقه هو خير الرازقين.
وقد وقع كما أخبر, فإن المهاجرين السابقين, تركوا ديارهم, وأبناءهم وأموالهم, نصرة لدين الله.
فلم يلبثوا إلا يسيرا, حتى فتح الله عليهم البلاد, ومكنهم من العباد فاجتبوا من أموالها, ما كانوا به من أغنى الناس.
ويكون على هذا القول, قوله:
لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌسورة الحج الآية رقم 59
" لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ " .
إما ما يفتح الله عليهم من البلدان, خصوصا فتح مكة المشرفة, فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور.
وإما المراد به, رزق الآخرة, وأن ذلك, دخول الجنة.
فتكون الآية جمعت بين الرزقين, رزق الدنيا, ورزق الآخرة, واللفظ صالح لذلك كله, والمعنى صحيح, فلا مانع من إرادة الجميع.
" وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ " بالأمور, ظاهرها, وباطنها, متقدمها, ومتأخرها.
" حَلِيمٌ " يعصيه الخلائق, ويبارزونه بالعظائم, وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره, بل يواصل لهم رزقه, ويسدي إليهم, فضله
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌسورة الحج الآية رقم 60
ذلك بأن من جني عليه وظلم, فإنه يجوز له مقابلة الجاني بمثل جنايته.
فإن فعل ذلك.
فليس عليه سبيل, وليس بملوم.
فإن بغي عليه بعد هذا, فإن الله ينصره, لأنه مظلوم فلا يجوز أن يبغي عليه, بسبب أنه استوفى حقه.
وإذا كان المجازي غيره, بإساءته إذا ظلم بعد ذلك, نصره الله.
فالذي بالأصل لم يعاقب أحدا إذا ظلم, وجني عليه, فالنصر إليه أقرب.
" إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ " أي: يعفو عن المذنبين, فلا يعاجلهم بالعقوبة, ويغفر ذنوبهم, فيزيلها, ويزيل آثارها عنهم.
فالله هذا وصفه المستقر اللازم الذاتي, ومعاملته لعباده في جميع الأوقات بالعفو, والمغفرة.
فينبغي لكم أيها المظلومون المجني عليهم, أن تعفوا, وتصفحوا, وتغفروا ليعاملكم الله, كما تعاملون عباده " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3